المقالات

السفير عبد الله الأزرق يكتب:واشنطن (13) ..خطة فصل الجنوب (هـ)

الخرطوم تسامح نيوز

كان جون قرنق على قناعة أن حرب الجنوب يجب أن تُضعف الشمال، وكان يقول لقادته: إنه إن لم يبلغ الضّعْف بالشمال ما بلغه الجنوب بحيث يتساويان في الضعف فلا يمكن أن يتم حوار مُثْمِر؛ فالحوار المُثمِر لا يجري إلا بين متساويين في الضّعْف أو القوة. وما قاله قرنق هنا صحيح . وأضيف أن العدالة لا تتم إلّا بين متساويين في الضعف أو القوة ، أو هكذا قال الفقيه الدستوري عبد الرزاق السنهوري .
وردد هذه المقالة نيال دينق نيال (ابن الزعيم الجنوبي الراحل وليم دينق) لزميلنا السفير الدرديري محمد أحمد حين كان نائباً للسفير في نيروبي.

ولأن نظرية إضعاف الشمال كانت راسخة لدى قرنق، فقد أبلغها لــ (المجلس) وتبناها أعضاؤه، بل ساهموا في تنفيذها وترويجها بين كل الدوائر التي لديهم عليها تأثير في أميركا.

وكانت نظرية إضعاف الشمال قديمة عند قرنق.
وكان يقول في خطابات علنية ومنشورة: إنه لابد من خلق منطقة عازلة Buffer Zone للجنوب مع الشمال، اتقاءً لهجمات الشمال حتى بعد “تحرير” الجنوب!!!
وتطبيقاً لتلك القناعة القديمة أرسل قوة من جيشه معظمها من قبيلته (الدينكا) لدارفور أواخر 1991 بقيادة عبد العزيز الحلو وداوود بولاد؛ لكنها فشلت وقُتل فيها بولاد وفَرّ الحلو.
فهو بذلك يسعى لخلق بؤر نزاع متعددة تُضعف الشمال.

وحتى بعد توقيع اتفاقية متشاكوس وتمديد اتفاق وقف إطلاق النار ما توقف قرنق عن تنفيذ نظريته.

حدثني الرئيس البشير أن الرئيس اليوغندي رتب لقاءً ضَمّه مع قرنق في كمبالا في 2 يوليو 2002، أي بعد توقيع متشاكوس.
وقال: إن قرنق تحدث معه بأريحية، وأبدى روحاً إيجابيه عبّر فيها عن ارتياحه لتوقف الحرب.
وأضاف الرئيس: إنه خرج من ذلك الاجتماع بروح معنوية عالية، وبدأ يفكر في كيفية تسويق قرنق للشعب السوداني ، بعد كل ما تركته الحرب في النفوس.

قال الرئيس: إنه صدم جداً لهجوم قرنق واحتلاله لتوريت أوائل سبتمبر 2002، بعد ذلك اللقاء المُفرِح وعقب توقيع متشاكوس!!
وعبر الرئيس عن صدمته تلك فوصف قرنق بأنه: “أكثر إنسان حلو لسان وقليل إحسان”!!!
وقال: إن احتلال توريت ذاك أحدث صدمة بمساحة السودان، خاصة أن الجيش فقد فيه عتاداً وسلاحاً كثيراً؛ وأنه كقائد شعر بمسؤوليته، فأعلن تعليق المفاوضات إلى حين تحرير توريت.
وهذا ما حدث.
وأضاف: إن الذي دعاه لتحمل مسؤولية إيقاف التفاوض، بالإضافة لإحساسه بالغدر، هو أن الغربيين شرعوا في الحديث مع المفاوضين – عقب اجتياح قرنق لتوريت – عن أن قرنق بما غنمه من سلاح سيجتاح الخرطوم !!! وأرسلوا نفس الرسالة للمسؤولين بالخرطوم . فعلوا ذلك ليزيدوا من إحباط الناس ، ليخضعوا لقرنق .

أفادني الأستاذ سيد الخطيب عضو وفد التفاوض ، أن ما أثار دهشتهم هو عدم رضى كل من حزب مولانا الميرغني وحزب السد الصادق المهدي وجزء من المؤتمر الشعبي ممثلاً في دكتور علي الحاج وكذلك الحزب الشيوعي عن اتفاق متشاكوس . وقال إنهم سعوا جميعهم لإجهاضه بتوقيع اتفاق مع الحركة الشعبية فيه مزيد مطالب . ولكن المُسَهِّلِين Facilitators قالوا للحركة الشعبية إن اتفاقها مع تلك الأطراف السودانية لا صلة له بما تم التوقيع عليه في متشاكوس ؛ فتنصّلت عن اتفاقها مع الأطراف .
قال لي الرئيس إنه عند خروج الصادق المهدي من السودان وشروعه في التنسيق مع الحركة الشعبية ، كان ابنه عبد الرحمن يعمل مع الحكومة . وقال : إنه استدعى عبدالرحمن وطلب منه أن ينصح والده بعدم تكرار أخطائه ؛ فقد كان أول من تسبب في تقوية قرنق بوساطته مع القذافي لدعم قرنق ، ولكن الأخير لم يحفظ له ” فضلاً ” ، ورفض مقابلته كرئيس وزراء ، وهذه إهانة . فلماذا يريد أن يدعمه مرةً أخرى وهو يقاتل جيش السودان ؟ وليذكر والده أن تقوية قرنق تعني مواصلته للحرب التي تدمر السودان ؛ وليتذكر أن مسؤوليته تجاه الوطن لا تنقضي حين يفقد منصب رئيس الوزراء .

ومواصلة لنهجه في إضعاف السودان حتى بعد متشاكوس، شرع قرنق في تأجيج الصراع في دارفور.
وفي هذا الصدد قال لي الرئيس: إن قرنق وروجر وينتر التقيا بقادة تمرد دارفور في تشاد سراً، ووعدوهم بالدعم.
ومن نصائحهم لهم: تغيير اسم حركتهم من “حركة تحرير دارفور” إلى “حركة تحرير السودان”.
وقالا لهم: إن “حركة تحرير دارفور” تعني: تمرد إقليم، وهذا من الصعب تسويقه عالمياً.
وأشار الرئيس إلى أن تلك “الحركة” كان قائدها العسكري عقيد سابق بالجيش التشادي يُسمى عبد الله أبّكر!!! وكان عبد الواحد محمد نور ومني أركو مناوي مُتَوَحِدين في قيادتها وقتها.

ونصحوهم بخلق (أزمة إنسانية) Humanitarian Crisis ليلتفت العالم لهم.
وبالفعل شرعت “الحركة” في حرق القرى، واستهداف مرافق المياه، ونهب شاحنات المؤن التي يجلبها التجار لدارفور، وضرب أبراج الاتصالات.
ونتيجة لذلك نزح المواطنون لمناطق سيطرة الحكومة، وهناك أقاموا معسكرات النازحين في دارفور واللاجئين في تشاد ، وخلقوا بذلك الأزمة الإنسانية التي أوصاهم بها قرنق وروجر وينتر . فتقاطرت عليهم المنظمات ومعها الصحفيون؛ وبدأت الحملة الإعلامية العالمية.

المؤسف أن ما أشعل مشكلة دارفور كان قتل أحد الزغاوة لجمل يملكه أحد العرب. وهذه إعادة لداحس والغبراء في القرن الحادي والعشرين!!!

وتضافرت أربعة أطراف في تأجيج صراع دارفور، وهي حركة قرنق والقذافي اللذان كانا يمدان متمردي دارفور بالسلاح والتدريب، وأمدها القذافي بالمال أيضاً؛ وهناك (المجلس)، والحزب الشيوعي السوداني.

أورد الصحفي شربل في كتابه (في خيمة القذافي) شهادة عبد السلام جَلّود الذي كان نائب القذافي؛ التي قال فيها: إنه بعد زيارته لمعسكرات جون قرنق بالجنوب أقنع القذافي بدعم الحركة بالسلاح.
وعمل السيد الصادق المهدي أيضاً في إقناع القذافي بدعم قرنق نكاية في نميري.
ورغم ذلك لم يحفظ قرنق لصادق المهدي ” فضلاً ” كونه سبب أول وأكبر دعم عسكري ومالي يحصل عليه ؛ إذ رفض لقاءه كرئيس وزراء السودان حين حكم، وقال له: إنه سيلتقيه فقط كرئيس لحزب الأمة؛ وفي ذلك ما فيه من تقليلٍ لشأنه.

وعند انفجار الأوضاع بدارفور أوكل الحزب الشيوعي لكادره إسماعيل سعيد مهمة إبقاء العلاقة متينة بين متمردي دارفور وحركة قرنق.
وبلغني من أحد المصادر أن القيادي الشيوعي سليمان حامد كان مبارِكاً ومتابعاً لهذا المَسْعَى.

أمّا ما يجمع بين الثلاثي : ١/ حركة قرنق ٢/ الحزب الشيوعي ٣/ و(المجلس) ؛ فهو السعي لخلق (سودان جديد) عبر القضاء على نظام الإنقاذ الذي يحرس (الثقافة العربية الإسلامية) التي هي (البناء التحتي) Substructure للمجتمع السوداني؛ وهي العائق الأكبر دون تحقيق وخلق (السودان الجديد) بالنسبة لهذه الأطراف الثلاثة.

وكان (المجلس) يتابع كل تلك التحركات، إذ كان داقني وروجر وينتر على اتصال وثيق وتنسيق دقيق مع قرنق.
تقول ربيكا هاميلتون: إنه لدى تصاعد هجمات متمردي دارفور في 2004، انزعجت الخارجية الأمريكية وخَشِيت أن يؤدي ذلك التصاعد إلى إجهاض المفاوضات الجارية في نيڤاشا.
وتعثّرت جهود (المجلس) وقتها في لفت انتباه وتركيز الخارجية لما يجري في دارفور.

السفير عبدالله الأزرق

21 نوفمبر 2023

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى