
نُقلت من نيروبي إلى واشنطن في 1994.
سفيرنا آن ذاك كان هو أحمد سليمان المحامي، رحمه الله، ونائبه الوزير المفوض ميرغني محمد صالح.
كان أحمد سليمان يعامل الجميع كأبنائه.
وهو رجل ذو تجربة سياسية عميقة وثرة.. كان قيادياً في الحزب الشيوعي، ووزيراً عدة مرات.. واستخدمه النميري سفيراً في لندن وموسكو ونيجيريا.
وقبل تعييني في الخارجية في 1990 زرته في منزله..
زرته مرةً مرافقاً للصحفي رئيس صحيفة الشعب المصرية عادل حسين؛ والكاتب المؤلف والصحفي فهمي هويدي.. كلاهما جاءا إلى السودان لمعرفة هوية الانقلابيين الجدد.
وحتى ذلك الحين لم يكشف الانقلابيون عن توجههم الإسلامي.
ومن إجابات أحمد سليمان الـمُغَلّفة على أسئلتهما، أحسست كأن الحاكمين طلبوا منه الإيحاء وليس التصريح بالهوية الإسلامية للحاكمين الجدد. وكلا الصحفيين الكبيرين كان ذا توجه إسلامي.
ويبدو أن الرسالة وصلتهم رغم ذلك بوضوح؛ لأنه بمجرد عودته للقاهرة كتب عادل حسين مقالاً في صفحة كاملة عنوانه:
“حكاية مجلس الصحابة الذي يحكم في السودان”.
وكان ذلك عنواناً كافياً ليَشِفَّ عن فحواه وعن رأي كاتبه.
ويقيني أن حكومة حسني مبارك قد انزعجت في ذلك الوقت من هذا التوجه في السودان.
كان أحمد سليمان مُعجباً بدكتور الترابي وصديقاً له.
وكان كعادته يحلف بالطلاق في تقريراته ، وكذلك فعل عن الترابي.
قال لي مرة: “عليَّ الطلاق أرجل راجل في السودان حسن الترابي”.
وأضاف مفيداً إياي أنه رجل انقلابي؛ ومن تجاربه أنه قبل أسبوع من الانقلاب يصيب الانقلابي إسهال لا توقفه العقاقير!!!
قال: مساء الخميس 29 يونيو 1989، أرسل لي الترابي رسولاً في منزلي طالباً مني زيارته في منزله.
ولما وصلت إلى المنزل وجدت الترابي جالساً في الصالون ومعه عدد من الناس.
وطلب مني الجلوس بجانبه؛ وواصل حديثه مع ضيوفه ضاحكاً، ويتبادل معهم الحديث.
ثم مال نحوي وهمس في أذني قائلاً: “موضوعنا الليلة”.
ثم واصل حديثه مع ضيوفه، كأن لا شيء خطير سيحدث!!!
قال لي سعادة السفير: بعد أن صليت الصبح ركبت سيارتي وتوجهت لمنزل صديق عمري الرشيد الطاهر بكر.
قلت له: لماذا والرشيد قد مات، رحمه الله؟
فرد: لأن الرشيد كان قال لي قبل موته: إن الصادق المهدي انتهى من البلد، وإنه لابد من انقلاب، ودعاني أن نخطط لانقلاب معاً. وأنا قلت له: أنا لن أخطط لانقلاب معك.. لكن عليَّ الطلاق أنا أعمل انقلاب قبلك.. وأنا ذهبت لمنزل الرشيد لأخبر “روح” الرشيد، فروحه موجودة بالمنزل!!!
قال: طرقت باب المنزل، وجاءني ابنه، وانزعج حين رآني والشمس لم تشرق بعد.. طمأنته، وطلبت منه كرسياً لأنني سأجلس أمام المنزل، وقلت له أن يخبر والدته لتحضّر لي قهوة.. وجلست وأنا أرى ضباط الجيش وهم يراقبون الحركة في صينية (دوّار) كوبر.
قال: أنا كنت من أنصار الانقلاب على الصادق المهدي؛ فقد كان فاشلاً متردداً.. انهار الاقتصاد وانعدمت معظم الاحتياجات المعيشية والوقود، وأوضاع جيشنا بالجنوب سيئة للغاية، واحتلت قوات قرنق 14 مدينة وحامية عسكرية، ووصلت إلى أقصى ولاية أعالي النيل، وغير بعيد من كوستي!!
قَصّ عليَّ الأستاذ السفير قصة تقول: إنه وصل يوماً لدار حزب الجبهة الإسلامية، ووجد قيادات الحزب متوترين من رفض الترابي مقابلة رئيس الوزراء المهدي الذي طلبه.. وطلب منه هؤلاء التحدث مع الترابي لإقناعه.. ودخل على الترابي فأقنعه، لكن الترابي قال له: بشرط تذهب معي لتشهد على الرجل.
وافق أحمد سليمان على شرط الترابي، لكنه اشترط أن يتحدث مع الصادق بحرية، وأن يقول ما يشاء.
ووافق الترابي.
ولما انتهى الحديث بين الرجلين في حضوره؛ قال هو للصادق إن عليه أن ينظم مع الترابي انقلاباً، يحكمان فيه البلد معاً؛ وسيكون ذلك حكماً قوياً يحتاجه البلد، وخاصة أن لدى الجبهة الإسلامية كوادر عالية التأهيل.
يقول أحمد سليمان، إن الصادق قال له: فلننتظر انتهاء هذه الدورة البرلمانية.
ورد عليه الأستاذ: هناك أطراف تخطط لانقلاب، وأنا أعرف أن الشيوعيين يخططون وكذلك البعثيين؛ وأن السلطة الآن أصبحت “مرمية” على الأرض وهذه الأطراف لن تنتظركم!!!
كان أحمد سليمان محباً ومعجباً بالترابي.
وقال لي: إن بناته يحببن الأنس مع الترابي حين يزورهم بمنزلهم، ويحببن فيه روح الدعابة والفكاهة والقدرة على محاكاة طريقة الآخرين في الحديث. هذا حين يرتاح لمن حوله ويتحلل من أوزار الألقاب، ويتحدث كصديق على سجيته.
وقال: إن الترابي لا يحتمل “الأغبياء”.. هكذا قالها.
كان عمر أحمد سليمان 73 عاماً، إن لم تخني الذاكرة، حين وصلت واشنطن ذلك العام. ولكني لم أعرف ذاكرة حديدية كذاكرته. يحكي عن وقائع حدثت عام 1959، بتفاصيلها كافة، كأنها حدثت أمامه قبل دقائق.
كنا نتحدث عن الموساد مرة؛ فقلت له: إن أول سوداني اجتمع بالموساد الإسرائيلي كان هو السيد الصديق المهدي في لندن عام 1954.. فقال لي باندهاش:
“يا ولد الكلام ده لقيتو وين؟”
رددت عليه أنني وجدته في كتاب لديَّ وثّق لبعض عمليات الموساد عنوانه:
Every Spy a Prince (كل جاسوس أمير).. ووفقاً للكتاب فتلك عبارة كان يقولها سيدنا موسى لليهود ليجمعوا معلومات عن أعدائهم الكنعانيين (العرب).
ضحك الرجل وقال لي: والله كنت أظن أنه ما بقي شخص حي في السودان يعرف هذه المعلومة غيري.
وأضاف: أن من رتب لذلك الاجتماع كان رئيس تحرير صحيفة (الأمة) التابعة لحزب الأمة واسمه محمد أحمد عمر وكان مقرّباً من السيد الصديق.
عُرف أحمد سليمان بحبّه وبِرِّه بأُمّه.
وشُوهد كثيراً يتوجه لمنزل والدته في الصباح الباكر، يتفقدها ويحتسي معها شاي الصباح.
وسمعت منه ما يؤكّد ذلك البِرْ.
وقال لي مرةً: إنه يسمي أُمّه (الصاروخ)، وذلك لسرعة التعويض الذي يأتيه من نَفَقَتِه عليها.
لم يكن أحمد سليمان يحترم أو يثق في الميرغني أو الصادق المهدي في مواقفهما السياسية.
وله موقف مناهض للمصالحة السياسية معهما، عبّر لي عنه صراحةً.
أما الذين يعبِّرون صراحة عن معارضتهم للإنقاذ فكان يصدمهم بردوده.
أكملنا صلاة الجمعة مرةً في ساحة مسجد المركز الإسلامي بواشنطن. وتوجهنا لعربته التي كانت تقف قرب المدخل. وهناك جاءه موسيقار سوداني شهير؛ وقال له: يا سعادتك بعد ده ما تمشو خلاص (يعني نظام الإنقاذ).
فقال له أحمد سليمان:
لا لسه كمان شوية.
ولكن الموسيقار قال له: تاني في شنو، باقي شنو؟
فرد عليه أحمد سليمان رداً فيه آثار ممّا تركته الشيوعية فيه، إذ قال له:
الباقي ……….. الأمّات.!!!
فما كان أمام الرجل إلّا الانصراف مذعوراً من رد السفير!!!
وكان من حسن حظي مزاملة نائبه السفير (الآن) ميرغني محمد صالح الذي كان يقع على كاهله حمل عبء السفارة بحق. كان مهنياً مخلصاً، هادئاً، وذا قلب رقيق، ولُطف ودماثة خلق.
10 نوفمبر 2023