المقالات

جعفر عباس يكتب: لماذا بدين بدين بدين؟

 

الخرطوم تسامح نيوز

 

حبي للسودان ينبع من حبي لبدين وأهل بدين، وغيري يحب قريته أو بلدته أو مدينته باعتبارها السودان المصغّر، ورغم انني عشت في بدين عشر سنوات فقط، وفارقتها وعمري 15 سنة، إلا أنني ظللت أحملها في قلبي وعقلي أينما ذهبت، وقد عشت في دولة قطر سنوات أطول من تلك التي عشتها في السودان، ولكن قلبي لم يغادر السودان لحظة واحدة، لأنني أتنفسه على مدار الساعة

بدين هي البيت الكبير الذي يضم عائلتي الممتدة، وكما قال الحبيب حميد في قصيدة عم عبد الرحيم ” ﻛﻞ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻫِﻨﺎ .. ﻛﻞ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺻِﺤَﺎﺏْ .. ﻛﻞ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺃﻫَﻞ”، وبدين اليوم صارت مكتظة بالسكان، فقد توافد إليها الآلاف الذين شردتهم الحرب في البنادر، عادوا اليها ليس كما العرجاء الى مراحها، ولكن كما العيال الى أحضان أمهاتهم وآبائهم، بعد فراق قسري طويل، ومن بينهم كثيرون لم يروا بدين من قبل قط، وسعدوا وطربوا عندما أحسوا أنهم ليسوا غرباء ديار فيها، بل “بدناب” أصلاء معززون مكرمون (النسبة في العامية السودانية بالألف والباء “اب” في آخر الأسماء بتأثير اللسان النوبي، فنقول هلالاب ورباطاب، بينما في اللغة العربية تكون النسبة بالياء أو الواو والياء في آخر الكلمة: مكي ومكاوي من مكة، وأهلاوي من أهلي، وفرنسي وفرنساوي من فرنسا)

بدين التي أذكرها كانت مبرأة من الكثير من العلل الاجتماعية والاقتصادية، فلم يكن فيها بيت يعجز عن توفير الوجبات اليومية الثلاث، ولم تدخلها الشرطة قط، فقد كان كبارها هم حراسها وقضاتها وأئمتها: للعمدة هيبة ولمساعديه كلمات مسموعة، لأنهم أولاد بلد وقلوبهم على البلد، لم يعمل ابي وأشقاؤه الثلاثة بالزراعة قط، وبالتالي لم تكن عندنا ولا نخلة واحدة، ولا بقرة واحدة، وأرض أجدادي كانت مؤجرة لمزارعين، ومع هذا كانت هناك جرار مملوءة بالتمر والحبوب في بيتنا، دون ان ندفع ثمنها، حبوبة نصرة طه، شقيقة روضة والدة أمي كانت كل بضعة أيام ترسل لنا “الفُرصة”، وهي الزبدة الخام التي تنتجها بعد خض اللبن ومعها كميات كبيرة من الروب، بينما كانت عنزاتنا المرابطات في زريبة امام البيت توفر لنا “بالعافية” اللبن للشاي، وأذكر ان حنفية الماء الوحيدة في حينا كانت في بيتنا، وقبل طلوع الشمس، كان طابور طويل ينتصب داخل بيتنا للحصول على الماء، ولم يكونوا يحتاجون الى إذن لدخول البيت، بل كانوا يعرفون كيف يستخدمون ال”شرو” لفتح الدُّقُل، وهو القفل الخشبي دون قرع الباب، وأصلا لم يكن باب الحوش يغلق إلا لمنع الغنم السائبة من الدخول

كنا لا نذوق اللحم إلا يومي السوق: الاثنين والخميس، ولكن كان هناك من يمارسون الذبح كيري وبيع اللحم داخل الأحياء، ومن بينهم ابن حينا البار خ. الذي كان ذا مروءة ومهارات متنوعة ويخدم الجميع، وذات مرة نجح في بيع لحم ذبيحة كيري في الحي، وبينما هو يستعد لحمل جلد الذبيحة والانصراف، جاءته سيدة وطلبت منه ان يسلخ لها “الرأس”، فأبلغها بأن بإمكانها ان تعود اليه بعد نحو ربع ساعة لتجد الرأس مسلوخا، ولسبب ما عادت إليه تلك السيدة بعد دقائق قصيرة ووجدت خ م منهمكا في سلخ الرأس، وأطلقت صرخة جعلت القماري تهرب من الحي زرافات: وي بيووو.. سجم أيقا قرقيد أيقا.. مُقرين أرتشا “لحم الكلاب”، فانتبه صاحبنا وصاح بدوره: مُقا مو (ما كلب) أوكّلا (ثعلب)، ووقتها كان لحم الثعلب الذي اصطاده خ ووزعه على بيوت الحي “يجقجق” على النار في العديد من البيوت، ومن ذاقوه قالوا إنه حلو كلحم العتود

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى