“أشتَمُّ رائحة القميصِ وطالما هَطلَ القميصُ على العيونِ وبَشَّرَا”.. الشاعر محمد عبد الباري..!
متابعة أحداث هذه الحرب التي أكملت عامها الأول بكل ما انطوت عليه من “ميلودراما” – تَبُزُّ أي حبكةٍ فنية – لم تكن تسمح بطبيعة الحال والمآل بمتابعة مسلسلات رمضان..!
فلا نفوس مُنفتحة ولا أمزجة رائقة، ولا طقوس رمضانية بمعانيها الحقيقية والحميمة، حيث البيوت الدافئة والإفطارات السعيدة مع الأسر الممتدة والجيران والأصدقاء، بل نزوح في أطراف الوطن، ولجوء في بلاد الناس، وذكريات أليمة وأحزان مقيمة..!
لكن بعض أخبار المسلسلات التي تعَثرنا بها ناقَشتْ ظاهرة فنية جديدة على الدراما المصرية صاحبتْ بث مسلسل “العتاولة” – المُتَصدر لأعلى نسب مشاهدة في رمضان – حيث خَرَق بعض أبطاله جمود الحائط الرابع الذي يفصلهم عن الجمهور “للتبشير بالنهاية المشوقة للمسلسل” في أثناء التمثيل..!
الدراما في “العتاولة” استعانت بحيلة مسرحية شهيرة هي “كسر الحائط الرابع”، وهذا مفهوم ابتدعه رائد المسرح الملحمي “برتولت بريخت”، وتتلخص فكرته في توظيف الفن كمشروع للتغيير السياسي والاجتماعي من خلال إسقاط ذلك الحاجز الخيالي غير المرئي الذي يفصل بين الممثلين – “الذين يقفون بين ثلاث حوائط على خشبة المسرح” – والجمهور. فهم يشعرون من خلال وجود حائط رابع متخيل بأن ذلك التمثيل واقع حقيقي يتفاعلون معه ويتأثرون به، دون أي تدخل بردود أفعالهم، ودون أي تحكم بتغيير المواقف والأحداث..!
ولأن المسرح هو “أبو الفنون” فقد كسر الممثل السوري “ياسر العظمة” الحائط الرابع في الدراما من خلال مسلسله الموسمي الشهير “مرايا”، فكان ينظر إلى الكاميرا ويخاطب الجمهور بجملة ختامية في نهاية كل حلقة. ثم ها هي الدراما المصرية تكسر الحائط نفسه على نحو أكثر جرأةً..!
الحائط الرابع مصطلح رَحْب مفاهيمياً وواسع دلالياً على نحو يجعله صالحاً للإسقاط على الكثير من الثُنائيات المعقدة، خلا ثنائية الممثل والجمهور. ربما لذلك قمت بإسقاطه قبل سنوات على العلاقة بين الشاعر والقاريء في مقال بعنوان “يسقط الحائط الرابع”، قدمتُ فيه احتجاجاً ساخراً على الغموض الذي أصبح شرطاً من شروط النص الشعري الحديث، في حين كان تذليل الغموض وإزالة الحواجز من أبرز ملامح تَطور المسرح الحديث..!
ثنائيات أخرى شبيهة يمكن إسقاط ذات المصطلح عليها مثل ثنائية “الحاكم والمحكوم” ودور الإعلام في كسر الحائط الرابع بينهما، ليس من خلال التمثيل “العديل” ولكن من خلال معنى آخر من معاني التمثيل وهو “الإنابة الإعلامية” التي تتيح للطرفين منبراً حراً لطرح الرؤى الإصلاحية والمواقف الوطنية بلا حواجز ..!
السوداني كمواطن ظل متفرجاً على الحكم، ثم ثائراً عليه، ثم متفرجاً على انقلاب ضده ثم ثائراً عليه.. وهكذا.. وقد آن له أن يكون فاعلا أصيلاً وشريكاً حقيقياً في صناعة الحكم والتغيير من خلال الإعلام الحر القائم على الشك المنهجي، فيكون بذلك وسيلته لتحقيق الإحلال والإبدال السياسي القادم..!
الإعلام المسئول الذي ينبغي أن يسود بعد مرور عام على هذه الحرب لا صوت فيه لحاكم مُستبد، ولا صورة فيه لحبال الصبر و”المَسكنة” التي تحَوَّلتْ إلى أنشوطة في أيدي من أوردونا – بتَمترُسِهم وجَهَالتِهم – موارد الحروب!.