د. مزمل أبو القاسم يكتب : أستاذ علوم المحبة

للعطر افتضاح
تأبى هذه السنة (الكبيسة) أن تختم مواجعها، وترفض أن تطوي كوارثها، وتُصِر على أن تكوي قلوب الناس بشتى أصناف الوجع، لتتنقل بِهم من محطات الكوارث، إلى أرصفة الآلام بلا رحمة.
أحصينا أيامها الكالحة طمعاً في رحيلها بأعجل ما تيسر، بعد أن وسمت أعناق الناس بالمعاناة، ورمتهم بالمصائب، وتمددت في شهورها السوداء بلاوي الكورونا، ووفرة المعاناة من فراق الأحبة، وضنك العيش، وتفشي الفقر، وشيوع الغلاء، وكوارث السيول والفيضانات، بدمارها الشامل، وخرابها المقيم.
قبل أيام من الآن فتح عام الكوارث منصةً جديدةً للحزن في بلادنا، برحيل شاعر الحب والجمال والتسامح السر دوليب، الذي فارق الفانية في يومٍ حالك السواد، بعد أن رسم أشعاره الخالدة، ودوَّن حروفه الرقيقة في قلوب كل محبي الفن السوداني، ومنح أروع المطربين أحلى الكلمات.
لو لم يكتب (مسامحك يا حبيبي) لكفته، بعد أن حلق بها بأجنحة الطرب الراقي مع (أبو عفان)، وسرَّب بها معاني اللوعة والعشق الحلال إلى قلوب المحبين، فآنست وحشتهم، وأنارت حالك لياليهم، وجملت نهاراتهم، وخففت عنهم غلواء اللوعة، وصبّرتهم على هجر الأحبة.
(مسامحك يا حبيبي، مهما قسيت علىَّ.. قلبك عارفو أبيض وكلك حُسن نيِّة.. ما خطرت بقلبي سلوى تحيدو عنك.. وما ممكن أعاتبك وياخد خاطري منك.. أنا عارف خصامك.. وغضبك في كلامك.. ما من جوَّة قلبك.. كلو على لسانك).
فيها انعقدت بأمر الراحل الشفيف أجمل محكمة للعشق.. محكمة تستند إلى قانون (السماحة)، وتنبني كل أحكامها على البراءة، ولا تعرف ردهاتها البهية أية إدانة للمحبوب، مهما قسا على المحب وأوغل في الهجر والصدود.
(مسامحك يا حبيبي.. سيان عندي عدلك أو جورك عليَّ.. تكابر أو تداري حبك باقي ليَّ.. بترجع ليَّ تاني.. وتسأل عن مكاني.. تجدني زي ما كنت.. زايد في حناني).
يا لروعة تلك المحكمة، حيث لا حاجة فيها للمتهم إلى محامٍ يذود عنه، أو شاكٍ يكيل له الاتهامات، أو قاضٍ يسجن أو يعنِّف أو يُغرِّم، لأن حقوق الحب وعهود المُحب محفوظة لديها في كل الأحوال.
تنوعت أشعار (البروف) وتعددت طبقاتها الموسيقية، لكنها لم تغادر مرافئ الجمال أبداً، ومنها ما جادت به قريحته اللطيفة الشفيفة العفيفة للفنان محمد ميرغني (مين فكَّرك يا حبيب مين الهداك إليَّ.. جرحي قرَّب يطيب جددتو تاني عليَّ)، ومنها (أنا والأشواق في بُعدك بقينا أكتر من قرايب.. ما بنغيب عن بعض أبداً.. زي أعز اتنين حبايب).
ومنها ما فاق حد الروعة في جودة الوصف لمحاسن المحبوب (اللون الخمري)، التي شدا بها الكروان عثمان الشفيع فأجاد اللحن وأحسن التطريب.
محطات الجمال في أشعار السر دوليب متنوعة، وتشبه بستاناً للورود اليانعة، والورود الندية، لكن أجملها بقي مزروباً بحنجرة عثمان حسين الرائعة المطواعة، بأجراسها الذهبية، وألحانها الحريرية، ومنها (مالي والهوى)، و(داوم على حبي)، و(ريدتنا ومحبتنا)، وغيرها من روائع الأغنيات التي سكنت قلوب أهل السودان، واستوطنت وجدانهم بمنتهى المحبة.
لم يقصر البروف أشعاره الندية على عثمان حسين، بل تبارى في توزيعها على غيره من كبار المطربين، فمنح عثمان مصطفى (تعال يا قلبي سيبو)، وجاد على الأستاذ أحمد المصطفى ب(اختار خيالي)، مثلما منح سيد خليفة (زيدني من دلَّك شوية)، وجاد على الفنان الذري إبراهيم عوض بأغنية (غني مين قوليَّ).
ألا رحم الله البروف تاج السر محمد المهدي، المعروف عند محبي شعره البديع وطلاب علمه الغزير بإمام دوليب، وتذكر سيرته الذاتية المترعة بالإبداع والإمتاع والتمكن أنه كان أستاذاً لعلم النفس في عدد من أبرز الجامعات السودانية، بعد أن نال درجتي الماجستير والدكتوراه من الجامعة الأمريكية في بيروت، وحصل قبلهما على درجة الأستاذية في علوم العشق، وفنون المحبة والتسامح والإبداع.
(اليوم التالي)
19 سبتمبر 2020