المقالات

د.ياسر يوسف يكتب: والجرح إرتد بينا لي زمان الآهة تاني

الخرطوم_ تسامح نيوز

 

ذات يوم وبينما كنا نتسامر سألت أحد الزملاء الأعزاء عن أحلك المواقف التي مرت به ولا يمكن أن ينساها في حياته.
فحكى لي أنه في ثمانينات القرن الماضي كان يدرس بجمهورية مصر العربية وكان حينها في السنة الثالثة أو الرابعة بكلية الطب ( لا أذكر ذلك بالضبط ) وتبقى له جلسة واحدة للإمتحانات وبعدها يشد الرحال إلى السودان لقضاء الإجازة الصيفية، وكان متحمساً للعودة إلى النيل والجروف وجو القرية فبدأ يجهز في حقائبه ويحصر في بعض الهدايا البسيطة التي يمكن أن يشتريها من توفير مصروفه لوالديه وإخوته وحاول أن يشارك زملائه السودانيين في السكن الآراء ولكنه لاحظ أنهم غير مهتمين بذلك ويتظاهرون بأنهم مشغولين بالمزاكرة. قال لي ظننت أنهم يخشون أن أطلب من أحدهم مبلغ من المال لأنني كنت أفقرهم فغضبت منهم وواصلت في حصر اشيائي التي أريدها حسب ماهو متوفر معي من مال ووضعت الورقة في جيبي وكنت كلما مررت بالسوق أشتري شيئ مهم حتى لا يخذلني المال أويغيب عن الذاكرة .
بعد آخر جلسة للإمتحانات ومن عاداتي أن أخرج من القاعة وأذهب مباشرة للسكن فأنا ليس من أنصار المكوث بالجامعة ومراجعة الأسئلة والنقاش الذي لا طائل منه وبالفعل وصلت للسكن الذي لم يكن يبعد كثيراً عن مباني الجامعة وماهي إلأ دقائق حتى لحق بي أحد الزملاء وقال لي أن الجميع مجتمعين بمباني الكلية ويريدونني أن أحضر ، حاولت أن أتهرب منه ولكنه أخبرني بأن الأمر هام ولابد من حضوري حينها شعرت بأن هناك أمر ما فظننت أن بعض نتائج المواد تسربت وأنني راسب في إحداها مما قد يفسد علي الإجازة ، رجعت برفقة زميلي إلى الجامعة فوجدت حشد من الزملاء السودانيين وبعض الإخوة المصريين في إنتظاري والحزن يخيم على وجوههم فما أن وصلتهم حتى سلمني أحد رفقائي بالغرفة خطاب وقال لي أن هذا الخطاب أوصله أحد التجار السودانيين إلى الجامعة قبل شهر وإعتذر لي بأنهم فتحوه وقرأوا محتواه.
كان الخطاب من أخي الأكبر يخبرني فيه بأن الوالد إنتقل إلى رحمة مولاه وكان تاريخ الخطاب قبل شهرين ونصف مما يعني أنه مكث برفقة التاجر شهر ونصف وبرفقة زملائي شهر فقد أخفوا عني الخبر لقرب موعد الإمتحانات ففي تلك اللحظة تملكني حزن عميق فكيف لوالدي يموت قبل أكثر من شهرين ونصف وأنا لا أعرف إلأ اليوم . عزاني الزملاء السودانيين برفع الفاتحة المعهودة عندنا أما الإخوة المصريين عزوني بعبارات البقاء لله وأحسن الله عزائكم حاولت أن أتمالك نفسي قدر الإمكان أمامهم ولكن ما أن رجعت إلى السكن حتى دخلت في نوبة بكاء عميق فتحت شنطتي وأخرجت العباءة الأزهرية التي إشتريتها له لأداء صلاة الجمعة وإحتضنتها وأنا أبكي.
مما زاد حزني أن الجميع هنا كانوا يعلمون أن والدي قد توفى إلأ أنا فكان هذا الموقف من أحلك المواقف التي لا يمكن أن أنساها ما حييت .

* طبعاً هذه القصة المؤثرة كانت قبل ثورة الإتصالات وسهولة وصول الأخبار .
في الشهور السابقة منذ إندلاع هذه الحرب اللعينةورغم مراراتها ولكن كل من في الغربة كان على تواصل دائم بأهله ومعرفة أخبارهم اول بأول بالإضافة لسهولة التحاويل وتقديم المساعدة في هذه الظروف .
أما اليوم وبعد الإنقطاع التام للإتصالات بالبلاد يبدو أننا رجعنا إلى الوراء بسرعة الصاروخ والجرح إرتد بينا لي زمان الآهة تاني فقطع الإتصالات جريمة في حق كل الشعب داخل البلاد وخارجه ويتحمل وزرها كل من ساهم في إشعال هذه الحرب اللعينة نتمنى أن يتحلى الجميع بقدر من المسؤولية الأخلاقية ويعملوا على عودة الإتصالات بالبلاد بأسرع ما يكون حتى لا تتفاقم مأساة المواطنين الأبرياء .
نسأل الله أن يحفظ أهلنا داخل السودان ويصلح حال البلاد .

وسلام يا وطن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى