ضياء الدين بلال يكتب : يتنَفَسون بأقلامهم

متابعات : تسامح نيوز
الوصول إلى قلب الخرطوم نهاراً مهمة شاقة ومرهقة، تُهدر فيها الأوقات وتُستنزف الأعصاب.
لا يُخفف من وطأة هذه المعاناة إلا الاستماع لإذاعة “البيت السوداني: إنتو بيتكم وين؟”.
صوت دافئ كضحكة معافاة وبفائدة الدواء.
كنت في طريقي اليومي من المنزل إلى الصحيفة، أستمع إلى هذه الإذاعة، حين صدحت أغنية لم أسمعها من قبل.
باغتني حزن مفاجئ، وشعرت برغبة جارفة في البكاء، غير أنني شدّت أزر مقاومتي، فحاصرت الدموع على مشارف الانسكاب.
كان المغني يردد:
دعوني ليلة الذكرى وحيداً بين أحزاني
والأحلام في صحوي سُهادٌ بين أجفاني
فيمضي زورق الذكرى بلا شاطئٍ وقبطان
فوجئت بإعلان المذيع أن كاتب كلمات الأغنية هو الصحفي الراحل، الأستاذ الرقيق رحمي سليمان. فهتفت: آآآه… هذا الحزن أعرفه ، الكلمات تشبه صاحبها.
كان رحمي سليمان صحفياً رقيق المشاعر، باسماً دوماً، ينتقي كلماته بحسٍّ مرهف، يتحاشى جرح الخواطر، ويسعى بلطف إلى تضميد ما انكسر. لا بل كان يضبط نبرة صوته كما لو كان يعزف على أوتار عود أو كمان؛ يخشى النشاز، ويُحسن الإصغاء، ويمنح مَن حوله تقديراً ومودة.
أذكره في أيامه الأخيرة، حين كان يكتب عموده بصحيفة (الرأي العام)، ويحضره بنفسه من الخرطوم (3) ليسلمه للصديق الخلوق البدوي يوسف، مدير التحرير.
كان العمود مكتوباً على ورقة “فلسكاب”، صفحة واحدة، محسوبة الكلمات، لا تزيد ولا تنقص، بخط أنيق وأسلوب رشيق.
في أحد مشاويره اليومية لتسليم الورقة، تعرض لحادث سير ألزم قدمه ، بالجبس والسرير.
ورغم ألم الكسر ووعثاء الزمن، لم يتوقف عن الكتابة. فكلف رئيس التحرير، أستاذي الجليل الراحل المقيم إدريس حسن، أحد سائقي الصحيفة بإحضار عمود الأستاذ رحمي من المنزل يومياً.
كان إدريس حسن رجلاً مخلصاً، وفياً لزملائه وأساتذته، ممن استنزفت الصحافة شبابهم وتركت لهم سواد الليالي وكُحل الأحزان.
مات رحمي في غرفة ضيقة بمنزل متواضع، تتقاسمه عدة أسر، أغلبهم – أظن – من وافدي الشقيقة إثيوبيا.
مات وفي جواره بعض أرشيف صحيفة “الأخبار”، وقصاصات مقالات منجزة، وقصائد لم تكتمل، وصور قديمة، وأدوات طباعة تشهد على زمن الحرف والحنين.
لم يحضر جنازته إلا القليلون؛ بعض الأصدقاء والأقارب والجيران. وكانت أوراق الفلسكاب لا تزال على الطاولة، يعبث بها الهواء المار بين النافذتين.
قبل سنوات حضرت تأبين السفير الدكتور بشير البكري، رجل من طراز نادر: بشوش، عميق، محب للورقة والقلم والحوار الهادئ. حتى بعد الثمانين، لم يكن يفوّت ندوة أو “سمينار”. وحين اشتد عليه المرض، ظل يكتب مقاله الأسبوعي حتى آخر قطرة حبر وآخر شهقة روح.
وقبلهم كان الصحفي العظيم الفاتح التجاني، الأسمر الوسيم، يكتب على ذات ورق الفلسكاب أصيب بسرطان الحنجرة، ففقد صوته ووزنه، لكنه قاوم بشجاعة وعزيمة نادرة المرض العضال ظل يكتب بذهن صافٍ ومزاج معتدل، يطرق أبواب كل المواضيع: من العمالة الأجنبية، إلى أزمة العطالة، مروراً بمياه الخرطوم وأعياد الكريسماس.
في أحد الأيام، سلّم عموده للبدوي ظهراً، ومات عصراً.
وفي الغد، خرجت الصحيفة ومقاله في الصفحة الأخيرة يخاطب القراء، وقد توسد هو الثرى، وفارق الحبر والورق، وعلامات الترقيم.
أما الراحل الأستاذ حسن ساتي، فقد أنهى مقاله اليومي، ثم شعر بالذبحة تتسلل إلى شرايينه،قاد عربته بنفسه من الصحيفة إلى المستشفى، ومات على طريقة صديقه الفاتح التجاني. كان مقاله في الغد يناقش القراء عن المنطقي والمعقول في قرارات الوزير.
هم، كالشعراء والمبدعين في بلادنا، كما رثاهم الجميل عبدالقادر الكتيابي في حياتهم، قبل الرحيل:
عرفتُ الآن كيف غدي…
فساعةُ حائطِ الأضلاعِ سابقةٌ،
وحاضرُ يومهم أمسي…
مضى الماضي وقدّمني،
فلا وجهي على المرآةِ أشبهني…
ولا ظلّي يلازمني…
هل الغرباءُ إلا نحنُ والشمس؟
نغيبُ، فتضربُ الدنيا سرادقَها لتذكرنا
كأنّ رحيلنا العُرس..!
عرفتُ الآن كيف غدي…
هل الفقراءُ إلا نحنُ والطير؟
نصوغُ لقمحةٍ لحنًا،
ويأكلُ لحمَنا الغير..
*إعادة نشر.