
إبراهيم شقلاوي: عودة مهندس إزاحة البشير
وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي
12 مايو 2025، حطّت طائرة خاصة بمطار بورتسودان تقل الفريق أول صلاح عبد الله قوش، المدير الأسبق لجهاز الأمن والمخابرات السوداني، ذلك بحسب “تقارير صحفية محلية”. قد يبدو هذا الحدث تحرك فردي، لكن القراءة المتعمقة للأحداث في مجملها تُظهر أن الزيارة ليست خارج سياق التحولات الكبرى التي يعيشها السودان، بل تتناغم مع لحظة انتقال مهم في الدولة السودانية، تتشكّل فيها ملامح ما بعد الحرب، وتُرسم فيها خرائط مراكز القوى من جديد.

سواء كان عودته وشيكة أم لا تزال طيّ الكتمان، فإن اسمه لا يغيب عن أحاديث الكواليس ومراكز التأثير. فالرجل الذي يُنظر إليه كالعقل المدبّر لإزاحة البشير في 2019، لم يكن يومًا على هامش العملية السياسية أو الأمنية في البلاد. في هذا المقال نطرح السؤال حول احتمال عودته إلى المشهد، كمفتاح لفهم ما يجري خلف الكواليس من إعادة ترتيب للسلطة وتحالفاتها في لحظة مفصلية من تاريخ البلاد.
قوش الذي يُعد أحد أبرز مهندسي المنظومة الأمنية خلال فترة الرئيس البشير، شغل منصب مدير جهاز الأمن والمخابرات الوطني مرتين، وعُرف بقدراته في إدارة الملفات المعقدة داخلياً وخارجياً، وهو ما أكسبه سمعة كرجل الظل، وأثار حوله جدلاً دائماً بين خصومه ومؤيديه.
يأتي وصول قوش قبل اسبوع من تعيين الدكتور كامل إدريس رسميًا رئيسًا للوزراء “19 مايو 2025، وكالة سونا” وهو حدث يُمثّل انتقالاً سياسيًا ضمن مرحلة ترتيب ما بعد الحرب. لا يُمكن فصل الزيارة عن هذه اللحظة، التي تُمثّل بداية تشكّل السلطة الجديدة، سلطة ما بعد الانقسام، ما بعد التمرد وما بعد الإنتصار.
رغم تقدمه في العمر “68 عامًا” ومعاناته من بعض الأمراض ، لا تزال احتمالية عودة الرجل إلى العمل السياسي أو الأمني قائمة، خاصة في أدوار استشارية أو قيادية لا تتطلب جهداً ميدانياً مباشراً. خبرته في أجهزة المخابرات، وعلاقاته الإقليمية خصوصاً مع مصر والإمارات، ودوره السابق في التنسيق الأمني، تمنحه قدرة على التأثير إذا ما اختير للعودة. كما أن صلاته الدولية، مع دوائر غربية، قد تُوظف لدعم ترتيبات انتقالية أو تحالفات استراتيجية، ما يجعله رقماً صعباً في معادلات السياسة السودانية الراهنة، خاصة في ظل فراغات أمنية وسياسية متزايدة.
كذلك الضغوط الدولية، وعلى رأسها القرار الأمريكي بفرض عقوبات على السودان بزعم استخدام أسلحة كيميائية. وقد اعتبرت الحكومة السودانية هذه الاتهامات محض افتراء، ووصفها بعض المحللين بأنها جزء من خطة مدروسة تهدف إلى تقويض موقف الجيش السوداني والضغط عليه لتقديم تنازلات في مفاوضات محتملة. ووصفوا القرار بانه ثمرة تنسيق أمني بين واشنطن وأبوظبي.
في منطق الأحداث الكلي، لا يظهر اللاعبون المحوريون إلا في المنعطفات، وعادة ما يسبقون التحول بخطوة، لذلك زيارة قوش جاءت قبل إعلان الجيش السوداني السيطرة الكاملة على ولاية الخرطوم، عقب استرداد منطقة الصالحة من مليشيا الدعم السريع 20 مايو 2025 الحدث الذي تتغيرت به المعادلات تمامآ تجاه الحرب. ففي تلك العملية، حصل الجيش على طائرات مسيرة وأنظمة تشويش متقدمة بحسب خالد الاعيسر الناطق باسم الحكومة ، وهو ما كشف دعمًا خارجيًا غير عادي للمليشيا.
وفي ذات السياق، جاءت العملية النوعية في الفاشر، حيث تمكنت وحدات الحرب الإلكترونية التابعة للجيش من إسقاط طائرة مسيرة متقدمة، يعتقد أنها كانت في مهمة سرية لنقل ذخائر ومعدات تقنية. نجاح الجيش في الاستيلاء على محتوى الطائرة دون تدميرها، وفك تشفير المعلومات التي تحملها، شكل اختراقاً استخباراتياً كبيراً، أتاح فهماً أعمق لتحركات المليشيا وشبكات دعمها اللوجستي.
كل هذه التطورات ترسم مشهداً جديداً للحرب: الدولة تحاول تثبيت أركانها وسط ضغوط خارجية. في هذا السياق، تبرز زيارة صلاح قوش، كتحرك محوري قد يشير إلى احتمال انخراط مرتقب لقوش في ترتيبات المرحلة الانتقالية أو ما بعد الحرب، إما بصفته مستشاراً أمنياً أو فاعلاً خلف الكواليس.
في هذا السياق، لا يمكن فصل عودة قوش بخبرته الطويلة في الاستخبارات والعلاقات الدولية عن احتدام الصراع الاستخباراتي. فالرجل، الذي نسّق سابقًا مع أجهزة عالمية مثل الـCIA في ملف مكافحة الإرهاب “نيويورك تايمز، 2008″ ، ربما ظهوره متعلق بصفقة تسعي لها بعض الأطراف. وهكذا دائما يكون ظهور قادة المخابرات عندما تكون الدولة في تقاطع بين الداخل والخارج.
أما في السياق السياسي كما نعلم الساحة السياسية السودانية تُعيد ترتيب أوراقها: شخصيات قديمة تعود، وكتل تتراجع، وتحالفات جديدة تُبنى. في هذا السياق، تظهر عودة قوش كـ”إشارة مفتاحية” إلى تحولات قادمة في طبيعة الدولة بكل مكوناتها العميقة والتي تتشكل وفقا لما ذكرنا سابقًا خصوصًا في أجهزتها الأمنية.
من خلال منطق سنن التاريخ وفقا لعماد الدين خليل، حين نقرأ الأحداث في سلسلة مترابطة، نجد أن لحظة 15 أبريل 2023 كانت ثمرة لتراكمات ومقدمات تحالفت فيها قوى داخلية وخارجية لفرض مشروعها العابر للحدود، هذه القوى منها” قحت” بتحالفها القديم والرباعية الدولية و الدعم السريع خططوا مجتمعين لإختطاف البلاد عبر ترتيبات ميدانية مثل اقتحام مطار مروي “13 أبريل 2023” والاجتماعات الليلية السرية داخل الخرطوم كما أوردتها “الجزيرة مباشر”.
إذن فإن ما يجري اليوم هو نتيجة لترتيبات معقّدة من عوامل داخلية وخارجية، تتفاعل الآن في سياق ما بعد الحرب، فالمشهد السوداني في مآله الآن يتجه نحو مركزية جديدة للسلطة، بعد أن تحطمت المشاريع الانفصالية. في منطق القرآن الكلي الذي يعلي قيمة السنن، نعلم أن الباطل قد يعلو حينًا لكنه لا يستقر. وعندما تبدأ الدولة في استعادة وظائفها الطبيعية: الجيش يحكم الجغرافيا، الحكومة تُعلن، والقانون يُطبق تكون لحظة الحقيقة قد اقتربت.. وكل من شارك في تلك المقدمات يحاول الآن استعادة مواقعه بما في ذلك قوش.
هذا وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة فإننا إذا قرأنا الخبر وفق منهج التفسير الكلي للأحداث، نجد أن زيارة صلاح قوش ليست خبرًا عابرًا، بل هو جزء من لوحة شاملة تتحرك فيها الدولة السودانية نحو ما بعد الحرب. منطق الأحداث، وترابط الأسباب، وسياق الزمان والمكان، كلها تشير إلى أن البلاد تدخل في مرحلة “تسوية القوة”، حيث تعود الرموز القديمة، وتُصنع معادلات جديدة. وما قوش إلا شاهدٌ عصر على مرحلة قد طويت وأخرى قد بدأت.
دمتم بخير وعافية.
الثلاثاء 27 مايو2025م Shglawi55@gmail.com