الإشكالات المرتبطة بتوصيف قوات الدعم السريع: من ميليشيا مسلحة إلى قوة متمردة
د. رجاء عبدالله الزبير الملك

الإشكالات المرتبطة بتوصيف قوات الدعم السريع: من ميليشيا مسلحة إلى قوة متمردة
تُعدّ مسألة التوصيف القانوني لقوات الدعم السريع من أبرز الإشكالات القانونية المرتبطة بالنزاع المسلح الدائر في السودان، وتكتسب أهمية بالغة نظراً لتأثيرها على مسارات العدالة والمساءلة الجنائية ، وما يترتب عليها من نتائج داخلية ودولية تجاه أطراف النزاع ،وقد أتخذت هذه القوات موقعاً مركزياً في المشهد العسكري منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، عقب انشقاقها عن القوات المسلحة السودانية وتمردها عليها.
على الرغم من ذلك ،ظل توصيف هذه القوة موضوعاً للجدل على نطاق واسع في الأوساط القانونية والإعلامية والسياسية، إذ تعددت التسميات وتباينت التصنيفات، ما بين وصفها بـ”الميليشيا المتمردة”، أو “القوة الإرهابية”، أو حتى “الجيش الموازي”، إلا أن هذه التصنيفات تعكس تضارباً في فهم طبيعتها ، وإنعكاسات ذلك على قواعد القانون الدولي، والمواقف الإقليمية، و الأخلاقية تجاه النزاع.
ومن هذا المنطلق ، نهدف إلى تقديم قراءة قانونية متماسكة لتوصيف قوات الدعم السريع، عبر تتبع نشأتها وتطور بنيتها التنظيمية، وسلوكها خلال النزاع الحالي، وتحليل الإشكالات القانونية المرتبطة بتصنيفها وفقاً لمبادئ القانون الدولي والوطني ، سعياً لتجاوز الخطاب الإعلامي المربك،وإرساء فهم قانوني رصين يسهم في توحيد المواقف القانونية حيال هذه القوات.
بدأت النواة الأولى لقوات الدعم السريع بوصفها ميلشيا غير نظامية
irregular militia unit))، تتألف من مسلحين محليين استعانت بهم الحكومة السودانية لمواجهة الحركات المسلحة في دارفور
منذ 2003، وقد عُرفت في الأدبيات المحلية بمسمى (الجنجاويد) وهو توصيف شعبي يشير إلى قطاع الطرق او الخارجين عن القانون في المنطقة ،هدفت الحكومة عند الإستعانة بهم توفير قوة ذات كفاءة لدعم القوات المسلحة،وقد أتسمت تلك القوات بعدم الإنضباط المؤسسي ،مرتكزة على روابط قبلية واجتماعية،
دون هيكل تنظيمي رسمي، مما جعلها تصنف في تلك المرحلة ضمن (الميليشيات غير النظامية) وفقاً لاحكام المادة الرابعة من إتفاقية جنيف الثالثة والتي اصبحت من القواعد العرفية ،
والمادة الاولى من لائحة لاهاي المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب البرية ،لا سيما مع كونها خاضعة حينها لإمرة القوات المسلحة.،الامر الذي يُحمل الحكومة السودانية مسؤولية سلوكها في تلك الفترة وفقاً للقانون الدولي الإنساني.
لاحقاً بدأت الحكومة السودانية خطوات إعادة هيكلة هذه القوات ، وأسندت إليها مهام حرس الحدود ابتداءً من 2007،قبل أن يتم تقنين وضعها رسمياً في عام 2017 بموجب قانون خاص تضمن هذا القانون نصاً يقضي بانها قوة عسكرية قومية التكوين ،لدعم ومعاونة القوات المسلحة والقوات النظامية الاخرى.

إستناداً لاحكام المادة (7/أ) من ذلك القانون ،كما نص على خضوعها لاحكام قانون القوات المسلحة لسنة 2007 ،المعدل في 2013، في حالات الطوارئ أو النزاعات المسلحة ، مع إمكانية دمجها الكامل مع القوات المسلحة بقرار من رئيس الجمهورية استناداً إلى المادة (5/2)، وإستدعائها عندما تكون الدولة في حالة حرب.
وبهذا التوصيف أصبحت قوات الدعم السريع (قوة نظامية)، تابعة للقوات المسلحة ،وفقاً لاحكام المادة (43/2) من البروتوكول الاضافي الاول لاتفاقيات جنيف،والتي اصبحت من القواعد العرفية ،
وكذلك المادة (5/3/هــ) من قانون القوات المسلحة السوداني ،
وعلى ذلك فإن الحكومة السودانية تتحمل مسؤولية الإنتهاكات التي إرتكبتها هذه القوات في مواجهة الشعب السوداني خلال تلك الفترة ،إستناداً لاحكام القانون الدولي الإنساني،
بالإضافة لمسؤوليتها الفردية عن الإنتهاكات الجسيمة التي إرتكبتها قوات الدعم السريع.
شهد عام 2019 ، تعديلات جوهرية في قانون قوات الدعم السريع ،كان أبرزها نقل صلاحيات القيادة من رئيس الجمهورية إلى القائد العام للقوات المسلحة ،
وإضافة مهام وأدوار جديدة لهذه القوات من بينها ( مكافحة الإرهاب ،
والإتجار بالبشر،والهجرة غير الشرعية ،
ومكافحة تهريب المخدرات، وتجارة السلاح غير المشروع والحد من إنتشاره)،
بالإضافة لمهامها التي كانت من قبل والمتعلقة بمعاونة القوات المسلحة والقوات النظامية الاخرى ، والتصدي لحالات الطوارئ والدفاع عن البلاد في مواجهة التهديدات الداخلية والخارجية.
وفي التعديل الثاني لقانون قوات الدعم السريع،الغيت المادة الخامسة التي كانت تخضع قوات الدعم السريع لاحكام قانون القوات المسلحة في حالة الطوارئ أو الحرب،وكذلك الغاء صلاحية دمج قوات الدعم السريع مع القوات المسلحة ،وبهذا اصبحت هذه القوات”قوة نظامية موازية” للقوات المسلحة،تتمتع بإستقلال مالي وإداري في مجال التجنيد والعمليات على الرغم من بقائها شكلاً ضمن منظومة القوات المسلحة ،حيث نصت المواد (6) و(7) على تبعية قوات الدعم السريع ومعاونتها للقوات المسلحة والقوات النظامية الاخرى في آداء مهامها، وعليه يمكن تصنيف قوات الدعم السريع في هذه المرحلة ب( القوة النظامية الموازية للقوات المسلحة ).
وقد قننت الوثيقة الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019 ،وضع هذه القوات ،حيث أكدت وفقاً لاحكام المادة(35/1) على أن القوات المسلحة وقوات الدعم السريع هما قوتان نظاميتان تتبعان للمؤسسة العسكرية الوطنية ، وتخضعان للسلطة السيادية في الدولة، مما منحها شرعية دستورية خلال الفترة من 2019 وحتى إندلاع النزاع المسلح.
مع إندلاع الحرب في 15 أبريل 2023،أنشقت قوات الدعم السريع(dissident Rebels force) وتمردت على القوات المسلحة،
وبدأت في خوض مواجهات مسلحة ضد الدولة والمواطنين،
وقد حصلت هذه القوات على دعم خارجي ،بهدف الإستيلاء على السلطة،وفي أعقاب ذلك الغي قانون قوات الدعم السريع بمرسوم دستوري ،كما صدر قراراً بضم قوات حرس الحدود والترتيبات الامنية للقوات المسلحة بعد ان كانت في السابق تتبع لقوات الدعم السريع ،كما الغيت المادة (35) من الوثيقة الدستورية ،
لتسقط بذلك الشرعية القانونية والدستورية عن قوات الدعم السريع .
وفقاً لذلك،أصبحت هذه القوات تُصنف قانونياً بحسب المادة (1) من البروتوكول الإضافي الثاني لاتفاقيات جنيف،ب (قوة منشقة متمردة) أرتكبت إنتهاكات جسيمة ترقى إلى جرائم الحرب ،وجرائم ضد الإنسانية،وتشمل هذه الإنتهاكات إثارة الحرب ضد الدولة،وإشاعة حالة من الرعب بين السكان المدنيين. وغيرها من الإنتهاكات الممنهجة ضد المدنيين.
ويعزز هذا التوصيف ما قررته المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة(ICTY) في قضية “تاديتش
” (Tadić) حين أكدت أن الدول تميل إلى تصنيف النزاعات الداخلية على أنها تمرد وخيانة،يدخل في نطاق إختصاص القانون الجنائي الوطني ،مما يستبعد بالطريقة نفسها أي تدخل ممكن من جانب الدول الأخرى، حفاظاً على السيادة والامن والنظام العام في الدولة.
ومن الجدير الإشارة إلى أن قانون القوات المسلحة السوداني لسنة 2007، وتعديلاته في 2013 تضمن نصاً يجرم كل من يحمل السلاح ضد الدولة ،أو مهاجمة القوات النظامية ،بما يهدد الأمن والاستقرار بالبلاد أو تعريض أستقلالها أو وحدتها للخطر، بالتالي فإن المادة (4) من قانون القوات المسلحة تنطبق على قوات الدعم السريع المنشقة ، التي تواجه تهماً بموجب هذا القانون ،فضلاً عن الاحكام ذات الصلة في القانون الجنائي السوداني ،ومنها جريمة إثارة الحرب ضد الدولة وتقويض النظام الدستوري.
وقد بدأت الدولة بالفعل محاكمة عناصر من هذه القوات،كما في قضية مقتل والي ولاية غرب دارفور السابق (خميس أبكر) ،لكن تظل الحاجة قائمة لتحديد المعايير القانونية والإختصاص النوعي للمحاكم في معالجة إنتهاكات قوات الدعم السريع ، والنظر في إمكانية إنشاء محكمة عسكرية متخصصة تراعي مبادئ القانون الدولي الإنساني،على إعتبار أن قوات الدعم السريع،يخضعون لاحكام قانون القوات المسلحة ،إستناداً لنص المادة (4) من القانون،ومن الضروري مراعاة تعقيدات التعامل مع أوجه الخلاف المحتملة بين المبادئ العامة للقانون الجنائي،ومبادئ القانون الدولي الإنساني،خاصة فيما يتعلق بعدم رجعية القانون،والتناسب بين العقوبة والجريمة،والتقادم المسقط للدعوى،والحصانات،وغيرها من المسائل المعقدة،مع التأكد على قدرة المحاكم لتوقيع عقوبات تتسم بالملاءمة والتناسب.
إن التوصيف القانوني لقوات الدعم السريع ،وتطور هذا التصنيف من ميليشيا غير نظامية،إلى قوة نظامية موازية ،ثم إلى قوة منشقة متمردة ،يمثل تحديًا قانونيًا بالغ الحساسية، نظراً لما يترتب عليه من تداعيات على العدالة الجنائية الوطنية والدولية. ومن المهم أن يستند هذا التوصيف إلى معايير قانونية واضحة تستوعب مراحل تطور هذه القوات وسلوكها، لضمان تحديد مسؤولية الدولة والافراد وفقاً لمقتضيات العدالة الجنائية الوطنية والدولية ، وترسيخ سيادة القانون في الدولة .
rajazubier@gmail.com
26.4.2025