المقالات

السفير عبد الله الأزرق يكتب: المعقول واللاّ معقول في العلاقات الدبلوماسية (11)

الخرطوم تسامح نيوز

 

 

نيروبي (4-أ)

كانت أول زيارة لي لجنوب السودان أوائل 1992، هي زيارتي لمدينة بور، وأسميها مدينةً على سبيل المجاز، فلا شيئ فيها يشي بأنها كانت مدينة.
كان التمرد قد دمّر كل مرفق حيوي!! دمر محطة الكهرباء.. ودمر المباني التي شيدت لمشروع زراعة الأرز، ومباني المستشفى، ومباني حكومية أخرى.. ويعيش الأهالي في عشش من القش لكنها صغيرة بائسة.
حتى مباني قيادة الحامية جزء منها مدمر ومثقوبة الأسقف.
لا شيئ يسترعي انتباهك أكثر من الدمار.
كان منظراً صادماً.
ودون أن أشعر قلت لقائد الحامية: لماذا نقاتل نحن هنا!!!

من ناحية أخرى:
(١) رأينا الشباب يغسلون رؤوسهم ببول الأبقار!! وهو أمر ربما تعافُه النفوس.
(٢) كنت أعلم أن الدولة تبنت برنامجاً لمحاربة العُري؛ ونشطت منظمة الدعوة الاسلامية في توزيع الملابس على المواطنين.
لكن، وضع السكان ملابسهم في منازلهم وخرجوا يتجولون عُراةً كما عهدوا!! وشاهدتهم هكذا في كبويتا.
(٣) وثمة قبائل تطبخ الدم وتأكله إداماً.. وأخرى تأكل القرود.. وكذلك يأكلون المَيْتَة.
(٤) وأكثر أهل جنوب السودان يدينون بالأرواحية Animism وهو الاعتقاد الذي يركز على عالم ما وراء الطبيعة metaphysical universe؛ وأنّ الأماكن والأشياء والمخلوقات لديها جوهر روحي متميّز.

أذكر هذه النماذج لا لأعيبهم ؛ وإنما لأبيّن مدى الفروق بين ثقافة أهل الشمال وأهل الجنوب.. والثقافة هي محدد الهوية، وهي روح كل أمّة؛ ويكون الدين أُسْ كل ثقافة وجذرها الأعظم.

في الأصل، لدي قناعة أن وجود فاصل ثقافي Cultural Divide بين أبناء أمة واحدة، مدعاة لاختلاف وفُرقة تعيق الانسجام والاندماج.. وأعتقد أن ذلك الفاصل الثقافي موجود أصلاً بين شمال وجنوب السودان.
ولدي اعتقاد أن ثمة شواهد في العالم تؤكد أن الاختلاف الثقافي يفرّق.
ومصداق ذلك ما وقع بين الهند وباكستان؛ وما وقع بين الكاثوليك والبروتستانت في أيرلندا الشمالية، وإن لم يفصل بعد؛ وما يقع الآن بين الروهنجا المسلمين في ميانمار وثقافة البوذيين الغالبة؛ والصراع بين الهندوس والمسلمين في الهند؛ والاختلاف الثقافي في إقليم بيافرا ومعظم الغالبية المسلمة في نيجيريا والذي أدى إلى حرب بينهما.

جوهر كل تلك الاختلافات والصراعات كان ثقافياً؛ ولكن عوامل أخرى كانت عود الثقاب الذي أشعل الصراع وأزكى أواره.. وقد يكون من أشعل عود الثقاب قوى استعمارية أو الكنيسة الغربية أو مطامع سياسيين ومتعلمين محليين.

ومن ثم إن جاز أن نقول: إن الذي فصل الباكستان عن الهند بقرة؛ فيجوز أن نقول: إن الذي فصل الجنوب عن شمال السودان جلابية.
والحديث هنا عن رموز ثقافية.

وتركيزاً على الحالة السودانية، نُقرر:
أن الاختلاف الثقافي قائم.. وزاد الفرقة تجديد مثقفي الجنوب الحديث عن تجارة الرق الذي حدث قبل قرن وأكثر، واستغلال بعض الشماليين للجنوبيين؛ لكن الاستعمار الإنجليزي والكنيسة الغربية أشعلوا فتيل الخلاف، وعندها اندلعت نار بالمجازر التي ارتكبها الجنوبيون في 34 مدينة ومركزاً بالجنوب، وإن اشتُهرت بمذابح توريت في 18 أغسطس 1955، وقبل استقلال السودان؛ وراح ضحيةً لها أكثر من 300 من الشماليين رجالاً ونساءً وأطفالاً، وكذلك بعض التجار من مسيحيي الشام؛ لأن متمردي ذلك الحدث عدّوهم من الموالين للمندكورو.
وكلمة مندكورو لدى الجنوبيين ازدرائية مهينة Derogatory، وتعني الحُثالة.

نجم عن تطبيق قانون المناطق المقفولة Closed Districts Ordinance، تفاقم وتكريس القطيعة السياسية، بل والثقافية بمنع لبس الجلاليب وتعليم العربية، وترحيل المعلمين والموظفين المسلمين الشماليين والقبائل الجنوبية المسلمة… ثم إيكال التعليم للبعثات التبشيرية المسيحية.
عملت البعثات التبشيرية على بث الكراهية للإسلام والمسلمين الشماليين. وكانت تُميّز من يتنصّر من الجنوبيين بإتاحة فرص التعليم. وهذا ما أدى إلى أن يهجر مسلمون جنوبيون دينهم ودين آبائهم، طمعاً في مغانم الكنيسة.. وأوضح مثال لذلك جوزيف لاقو الذي قاد التمرد الأول ضد الشمال.

وقد فَطِن الرئيس عبود للدور السلبي الذي تلعبه الكنيسة الغربية، في تعميقها للفجوة الثقافية بين الشمال والجنوب، فطرد المبشرين من الجنوب عام 1962.

ولم يكن عبود بِدَعاً في ذلك؛ فقد تَبِعه بعد سنوات الرئيس الزامبي كينيث كاوندا بتقييد عملهم، واتهمهم بنشر أفكار تتناقض والعادات والتقاليد الأفريقية.

وفي نفس عام مجزرة توريت كونت الحكومة لجنة تحقيق ثلاثية، يرأسها القاضي قطران (مسيحي) الشهير وقتها، وفي عضويتها الإداريين لادو لوليك وخليفة محجوب.

خلصت اللجنة إلى أن:
– الجنوبيين لا يحسون برابطة تجمعهم مع الشماليين في وطن واحد.
– الانتماء للقبيلة يأتي لدي الجنوبيين أولاً وقبل الانتماءات الأخرى، بما فيها الانتماء الوطني.
– الجنوبيين ينظرون للشماليين كعدوٍ تاريخيٍ.

ومنذ مجزرة توريت تواصل النزاع المسلح..
توقف بعد اتفاقية أديس أبابا 1972، ليندلع مرة أخرى في 1983، ولم توقفه إلاّ اتفاقية السلام الشامل في 2005.
وهكذا زادت الحروب شحنات الغضب والإحساس باللاّ انتماء لدى الجنوبيين جراء ويلات الحرب، التي راح ضحيتها بالمثل عشرات ألوف الشماليين.
بالمثل، لم يُحس أكثر الشماليين برابط عرقي زنجي مع الجنوبيين، بل نتعالى عن ذلك، ونُصرُّ على أننا عرب خُلّص رغم سواد بشرة بعضنا، وتجعدّات شعر بعضنا، وفطوس بعض الأنوف.

بعامة، كان الإحساس بالمظلومية لدى الجنوبيين عميقاً، ولكننا كشماليين لم نُدرك مدى عُمق ذلك الإحساس لديهم؛ وظللنا نعلم أطفالنا في المدارس:
“منقو قل: لا عاش من يفصلنا”!!!

نفذت حكومة البشير ما أسمته برنامج “الوحدة الجاذبة” وبذلت مئات ملايين الدولارات؛ ولكن كان كل ذلك دون جدوى؛ إذ صوّت الجنوبيون للانفصال.

وللحقيقة، فقد كنت على قناعة أن الجنوبيين سينفصلون.
السفير عبد الله الأزرق

14 أكتوبر 2023

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى