المقالات

السفير عبد الله الأزرق يكتب: المعقول واللا معقول في العلاقات الدبلوماسية (4)

الخرطوم تسامح نيوز

 

 

لما أراد الانجليز بخبثهم المعهود أن يستفزوا أحد رؤساء فرنسا حين زارهم، أقاموا له المأدبة الرسمية في قاعة في قصر وستمنستر (مقر البرلمان) عليها جدارية ضخمة تجسد معركة ووترلو

Battle of Waterloo التي هزموا فيها نابليون في 1815.

هكذا استخدم الانجليز إحدى مآثرهم التاريخية التي بها يفخرون ليقولوا للفرنسي إنك لن تطال مقامنا التليد السامي. وتظل تلك المعركة بعض تراث الانجليز وبعض ثقافتهم، يستخدمونها لتمجيد أنفسهم والحط من قدر دولة تنافسهم.

ومنذ قيام الإمبراطوريات ظلت الدول تحفل بتراثها وتروّج لثقافتها، بل تفرضه بقوتها على الضعفاء. وحتى المسيحية — التي هي دين شرقي وأرسل رسولها لبني إسرائيل وحدهم — احتكرها الغرب وطفقوا يروجونها كأساس ثقافتهم. وكان القساوسة يرافقون سفن جنود الحملات الاستعمارية. يستغلون الدين الذي هو أهم ما يشكل الثقافات مطيةً لاستغلال خبيث.

وقد أجاد أخونا جومو كنياتا حين قال:

When the missionaries arrived, the Africans had the land and the missionaries had the Bible. They taught us how to pray with our eyes closed. When we opened them, they had the land and we had the Bible.

“حين جاءنا المبشرون المسيحيون، كنا كأفارقة نملك الأرض وللمبشرين الإنجيل. ثم علمونا أن نُصلّي وأعيننا مُغمضة. وحين فتحناها، وجدناهم قد أخذوا أرضنا، وتركوا لنا الإنجيل“.

وما زالت الكنيسة الغربية وبتشجيع من الدول تبذل المليارات لنشر المسيحية، وتستخدم في سبيل ذلك المنظمات الإنسانية والإعلام والسينما. ونشر المسيحية يعني تغيير الثقافة، ومن ثم الاستلاب الثقافي cultural alienation والقرب من معتنقيها عاطفةً وسلوكاً.

ويتطلب نشر الثقافة للتأثير أن يتولى أمرها ذوو المعرفة والإحاطة بثقافات الأمم وتاريخها، وإعداد مشروعات وبرامج تحقق الإعجاب والاندهاش، ومن ثم الانجذاب.

زار نائب الرئيس الصيني السودان، فأخذه موظفو المراسم برئاسة الجمهورية لزيارة (بوابة عبد القيوم) فلما أوقفوه أمامها لم يرَ ما يثير الدهشة والإعجاب، فالتفت لسفيره في السودان وسأله هامساً: لمَ جاؤوا بنا إلى هنا؟ فلم يُحِر سفيره جواباً، وربما أُحرج لأن السفير عمر عيسى الذي يتحدث الماندرين كما يتحدثها السفير كان بقربه، وهو من حدثني بذلك.

تمثل بوابة عبد القيوم رمزاً تراثياً من بعض ثقافتنا، لكنها تفتقر لعنصر الدهشة والجذب اللازم للتقدير لدى الأجانب.

بالطبع لا يمكنك أن تأخذ شخصاً بنى أجداده سور الصين العظيم إلى بوابة عبد القيوم. هذا علماً أن عُمر سور الصين آلاف السنين، ويمتد آلاف الكيلومترات. بل هو المعلم التذكاري الوحيد الذي بناه بشر ويُرى من القمر. The only human made monument that can be seen from the moon

في أواخر ثمانينات القرن الماضي نحت بروفسر جوزيف ناي Joseph Nye (أستاذ بهارفارد) مفهوم “القوة الناعمة” Soft Power ويعني به استخدام أدوات التأثير المعنوي لتشكيل خيارات الآخرين وجذبهم، بديلاً عن القوة الصلبة كالأسلحة للغزو والاستعمار المباشر. وصدق حين قال إن استخدام أدوات القوة الناعمة التي تعمد لاستمالة البشر(co-opt) أفضل من القوة الصلبة التي تقوم على الجبر والإكراه (coerce).

أدوات القوة الناعمة هي الثقافة، وأهم ما يشكل الثقافة هو الدين. ومن عناصر القوة الناعمة المذاهب الفكرية (Ideology) والأخلاق، والتعليم، والفنون بضروبها كافة، والآثار والمعالم الأثرية، والتقاليد والعادات.

ظلت الدول والجماعات تستغل عناصر قوتها الناعمة لجذب آخرين، لتصل بهم مرحلة أن يريدوا ما تريد، ويتبنوا ثقافتها وأنماط تفكيرها، وسلوكها وتقاليدها أو بعضاً منها. وكانت القوة الناعمة تُستخدم قبل أن يُكيفها ويضبطها ويعرفها بروفسر جوزيف ناي بهذا المفهوم الحديث.

فقد كان الاتحاد السوفيتي يتيح مئات المنح الدراسية في جامعة لوممبا وغيرها لطلاب أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا، وحقق نجاحاً عبر هذا السبيل فنشر الشيوعية.

وكانت الدول الغربية تفعل مثل ذلك وإن كانت مجتمعة لا تبلغ منحها ما كان يفعله السوفييت.

واستخدمت أميركا هوليوود، فروّجت لنمط حياتها، وكافحت عبرها الشيوعية. واستخدمتها مع وسائل أخرى لتجميل صورة النظام الرأسمالي، ونشر مفاهيمها عن الحرية والفردية Individualism.

وبَرَعَ المصريون في جذب الملايين لبلدهم عبر السياحة، لرؤية آثار الحضارة الفرعونية. وعلَّموا مئات الألوف ومنذ قرون في الأزهر، وكانوا يبعثون بعلماء الأزهر لدول العالم لوعظ وتعليم الإسلام. وبذلوا آلاف المنح لدول عديدة في جامعاتهم. وقبل عقود كانت صحافتهم وإعلامهم الأشد تأثيراً. هذا قبل ان تنافسهم بيروت وبعض الصحف السعودية، وقبل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي.

وقد انتبهت أممٌ كثيرة لأهمية توحيد الثقافة بين مكوناتها السكانية. ولهذا عمدت إلى برامج الدمج (Integration). واشتطت دول في تطبيقات الدمج كما فعلت فرنسا التي حرّمت الحجاب على المسلمات وأقفلت مئات المساجد والمدارس الإسلامية، وفصلت مئات الأئمة ومدرسي اللغة العربية. في تناقضٍ مع مبادئ “الحرية والاخاء والمساواة” التي تتفاخر بها زوراً. واحذر – سيدي – أن تثق ان الخواجات يؤمنون بالتعددية الثقافية في بلادهم.

أثق أن أقوى عناصر القوة الناعمة لدي المسلمين هو الإسلام نفسه. فقد غيَّر الإسلام حياة وسلوك وثقافة مئات ملايين البشر لدى انتشاره بعفوية في إندونيسيا وماليزيا ودول آسيا وآسيا الوسطى وأفريقيا. ورغم فقر المسلمين وضعف بلادهم أصبح الإسلام اليوم أسرع الأديان نمواً على نطاق العالم The fastest growing religion worldwide.

ومنذ إنشاء الجامعة الإسلامية ثم جامعة القرآن وجامعة أفريقيا العالمية منح السودان عشرات ألوف المنح لمسلمين في آسيا وأفريقيا، وأصبحوا سفراء للسودان في بلادهم، يدافعون عنه ويمدحون شعبه ويعينون السفارات السودانية في عملها.

هذه المؤسسات هي التي حببت السودان للمليونير النيجيري دانقوتي Aliko Dangote، فكان يتبرع لها بملايين الدولارات سنوياً. وللأسف طرده القحاتة حين أتى ليحضر اجتماعات مجلس أمناء جامعة أفريقيا في 2019، تطبيقاً لبرنامجهم الرامي لمحاربة الإسلام ومؤسساته.

في إحدى زيارات الرئيس موسيڤيني للسودان، أعجب جداً بجامعة أفريقيا العالمية، واندهش حين علم أن عدد الطلاب الأجانب فيها يبلغ 15 ألفاً، وأن اليوغنديين بينهم يقارب المائة يدرسون الطب وكليات علمية أخرى. وقال إن بعض الدول الغربية تعطينا 5 منح في العام وتمتنّ علينا. وربما كان هذا أحد أسباب مطالبته أن تكون يوغندا مقراً لمنظمة الدعوة الإسلامية حين حلّتها حكومة قحت، هذا رغم أنه مسيحي.

وجَمّلت منظمة الدعوة الاسلامية والوكالة الاسلامية للإغاثة ولجنة مسلمي أفريقيا صورة السودان خارجياً، عبر توطين خدمات التعليم والصحة والمياه والإغاثة في بلاد أفريقية.

وكل تلك المؤسسات تقوم على أموال مسلمين محسنين من الخارج.

وقامت إذاعة القرآن وقنوات طيبة بشرح الإسلام بلغات الهوسا والأمهرا والسواحيلي. وهذا كله يساهم في وَسْم السودان Branding.

لِمَ الإغلاق والإضعاف والتجاهل لمؤسسات قوة ناعمة للسودان؟

ولكن هذا طبيعي إذا ساد الجُهّال.

إذا ما الجهل خيَّم في بلا د رأيتَ أسودها مُسِخَت قرودا.

وخسر السودان رجال أعمال وأثرياء شادوا كليات ومدارس ومستشفيات ومراكز صحية في السودان وخارجه عبر تلك المؤسسات. بل إن التصنيع الحربي بدأ البشير إنشاءه بمبلغ 25 مليون دولار تبرع بها هؤلاء المحسنون.

ورحم الله أبا الطيب حين قال:

فقر الجهول بلا قلب إلى أدب فقر الحمار بلا رأس إلى رسن.

مما يثير العجب أن مؤسسات قوتنا الناعمة السودانية استهدفت بالإغلاق أو الإضعاف، لكنهم سمحوا لمنظمات محلية (مثل منظمة عديلة) وأجنبية تنشر المثلية والإباحية.

السفير عبد الله الأزرق

24 سبتمبر 2023

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى