السفير عبد المحمود عبد الحليم يكتب: أوراق سيريلانكية (2).. غوتابايا راجاباكسا: الجري دا ما حقي

تسامح نيوز- الخرطوم
كانت تمسح بين الفينة والأخرى مكان عينها اليمنى التي فقدتها إثر محاولة اغتيال تعرضت لها من قبل الحركة المتمردة.. بدا وجهها جميلاً رغم ذلك وبقسمات ودودة وهي تمضي في شرح أوضاع بلادها وكأنها تعيد قراءة صفحات كتاب مرعب بالتوقف أحياناً وإعادة شرح بعض الأهوال التي تعرضت لها مثل اغتيال زوجها النجم السينمائي فيجايا كوماراتونقا، وفقدانها كذلك لوالدها في حادثة اغتيال اخرى.. كانت تكثر من النظر لسقف القاعة وكأنها تنتظر قدوم طائر ضخم تقول أساطيرهم انه يأتي مع بداية مواسم الأمطار كل عام حاملاً فوق أجنحته من فقدناهم فننعم برؤياهم قبل ان يواصلوا رحلة الخلود مرة أخرى… لم تكن المقابلة مراسمية فقط لتقديم اوراق اعتمادي سفيراً بتلك الجزيرة الساحرة للرئيسة شاندريكا كوماراتونقا، بل أفاضت في تقليب صفحات ومعالم الأزمنة الصعبة ببلادها سيريلانكا والتي كانت تنهمك وقتها في مواجهة حركة نمور التاميل، المعروفة عالمياً بقوتها المرعبة وتنظيمها المتفرد وتكتيكاتها التي استعارتها حركات تمرد اخرى مثل التفجيرات الانتحارية والتفخيخ، والتي كانت تهدف لانفصال شمال وشرق الجزيرة وطناً للتاميل…
قالت وهي تختتم حديثها انه على الرغم من ان الخيار قد يكون بين الكارثة والفجيعة، إلا اننا يجب أن ننظر أبعد من ذلك… وقالت بابتسامة عريضة “ربما ذهبت عيني التي فقدتها بحثا عن ذلك الحل”..
أتى حين من الدهر فشلت فيه الوساطة النرويجية… واستعرت من جديد الحرب الأهلية وبشكل أكثر ضراوة، وإذا كانت تلك البلاد قد سميت “بدمعة الهند” تشبيهاً لقوامها الجغرافي الخارج من مقلة شبه القارة كدمعة؛ فان الدماء والدموع قد استوطنت بالفعل تلك الربوع بتصاعد الحرب التي كتب لها ان تنتهي في 18 مايو من عام 2009 بحدث مجلجل وهو تمكن القوات الحكومية بعد استعداد وهجوم كاسح ضد الحركة من قتل “اله الشمس” فيلوبلاى بهاربكاران زعيم حركة نمور التاميل بعد أن حاصرته وهو يعبر آخر الأنهار .. كانت صورة جنود الحكومة وهم يتفرسون في جثته وشاربه الكثيف اشبه بصور ملاحم الأساطير الإغريقية.. وبدا وكانهم يتخوفون ان ينتفض ثانية من رقدته تلك كما بدت ايضا جثة نجله ذي الأربعة وعشرين عاما إلى جانب مسؤول الحركة السياسي.
حمل وزير الدفاع وقتها وبطل الحرب الرئيس الحالي غوتابايا راجاباكسا خبر مصرع قائد التمرد لشقيقه الرئيس ماهيندا راجاباكسا الذي أعلن في جلسة طارئة للبرلمان انتهاء الحرب وما أسماه بانتصار الأمة.. تم تتويج غوتابايا راجاباكسا وزير الدفاع كبطل قومي… وقد ساعده ذلك الصيت والمهابة والمكانة التي حظي بها في اكتساح انتخابات رئاسة الجمهورية ليؤدي القسم قبل ثلاثة أعوام في معبد بوذي بمدينة انورادهبورا المقدسة جنوبي البلاد رئيسا لسيريلانكا متعهدا خلال ذلك الحفل بتبني سيادة الثقافة السنهالية والبوذية، وهو أمر قد شغله قطعا عن أولويات تضميد جراحات الحرب وتعويض معاناة شعب الجزيرة عبر إدارة أقتصادية جادة إلى ان أتاه التسونامي السياسي الأخير… ان كانت الجزيرة بحكم موقعها الجغرافي قد اعتادت على هبوب الأعاصير والرياح على سواحلها الساحرة وغاباتها المدهشة وقمم جبالها الفاتنة فقد كان تسوناميها السياسي والاقتصادي مدمراً وقاتلاً متمثلا في أزمة أقتصادية غير مسبوقة… وإذا كانت اساطير ذلك البلد تقول ان الفاصل المائي والصخري الذي يفصل بين سيريلانكا والهند قد خلق حتى لا يتمكن آدم من العودة بعد أن طرد من الجنة فإنه من المؤكد أن الشئ الذي لن يعود إلا بشق أنفس هو الأداء الجيد لاقتصادها في أوقات سابقة قبل ان تبتلع نفقات الحرب مواردها وقبل أن تغرق سيريلانكا في أعماق أسوأ ازمة أقتصادية في تاريخها وتضعها على شفا الإفلاس الكامل بسبب تداخل عدة عوامل من بينها سوء وفساد الإدارة الاقتصادية والديون الخارجية، حيث أعلنت الحكومة منذ أبريل المنصرم عن عجزها وعدم قدرتها على دفع ديون تبلغ 23 مليار يورو، علاوة على جائحة كورونا التي قصمت ظهر القطاع السياحي بالبلاد فأدى كل ذلك إلى إغلاق المدارس لعدم توفر الورق والأحبار، كما ألغت المستشفيات عملياتها الجراحية لنفاد خيوط ومستلزمات الجراحة، أما الوقود فلا مال يستورد به ولا أمل في ان تكون محظوظا فتجده بمحطات الوقود وان طال انتظارك لثلاثة أيام بها، وأدت مشاكل الوقود لتأثيرات بالغة السوء على كافة القطاعات وخاصة التموينية وسلاسل الإمداد والمواصلات العامة.
استباحت الجموع الجائعة قصر الرئاسة والذي اذكر متانة التحصينات حوله وصعوبة الدخول إليه.. اختار بعضهم السباحة في مسبح القصر بينما وقفت مجموعات أطفال وذويهم وهم يلهون بآلة البيانو الضخمة، وفضل بعضهم التناوب في الجلوس على كرسي الرئيس بمكتبه.. وقد شوهدت مجموعات أخرى وهي تنوم على ارائك القاعات الفسيحة
بقصر الرئاسة الذي ظل لأكثر من مائتي عام رمزاً لسيادة ذلك القطر… لم يترك وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن هذه السانحة تمر دون توظيفها في الحرب الدبلوماسية ضد روسيا حيث صرح بأن القيود التي تفرضها روسيا على صادرات الحبوب الأوكرانية قد ساهمت في الاضطرابات الأخيرة بسيريلانكا وان تبعات مشاكل الأمن الغذائي قد تنعكس في مناطق أخرى من العالم.
….”أحياناً يكون الاختيار بين الكارثة والفجيعة “… تذكرت حديث الرئيسة شاندريكا كوموراتنقا وأنا أحاول قراءة ما كان يدور برأس الرئيس غوتابايا راجاباكسا قبل ان يسارع بترك القصر وتقديم استقالته… الرئيس غوتابايا الذي هزم حركة نمور التاميل هزمته هذه المرة “قفة الملاح السيريلانكية”.
…على أطراف المدينة كانت أمواج المحيط تجدد نفسها… لعلها تنذر بجديد فى حياة تلك الجزيرة الساحرة.