الواثق كمير :رئيس الوزراء في نيويورك.. تحرك غير مدروس

متابعات_تسامح نيوز
في السودان يُقال “كل حركة معاها بركة”، وهو مثل يصف التحرك غير المدروس، القائم على حسن النية أكثر من حسن الإعداد. للأسف، هذا المثل يلخّص بدقة ما أحاط بزيارة رئيس الوزراء إلى نيويورك للمشاركة في جلسة إحاطة مجلس الأمن بتاريخ 22 ديسمبر، سواء قبل السفر أو أثناءه.
فمنذ الإعلان عن الزيارة، ساد التخبط وغياب الشفافية. تضاربت التصريحات الرسمية حول أهدافها، وتعددت الروايات بين الحديث عن اختراق دبلوماسي، ومن روّج لتقديم نسخة منقحة من خارطة طريق الحكومة لإنهاء الحرب، واللقاء مع الأمين العام للأمم المتحدة، وذهب البعض إلى أنّ الغرض من الزيارة هو مقابلة مسؤولين من دولة الإمارات بوساطة أميركية-سعودية. هذا الارتباك فتح الباب واسعًا للتكهنات، وطرح أسئلة مشروعة: لماذا الآن؟ ولماذا بهذه الصيغة؟ ومن هو الجمهور المقصود بهذا الخطاب؟
هذا الغموض لم يكن تفصيلًا عابراً، بل كان مؤشراً مبكراً على ضعف الإعداد السياسي والإعلامي، وهو ضعف ظهر بوضوح داخل قاعة مجلس الأمن نفسها، وفي طريقة إدارة الخطاب، وفي التفاعل مع الردود والملاحظات.
مخاطبة قاعة بلا جمهور رفيع المستوى
عُقدت جلسة الإحاطة بطلب من بعثة السودان، دون حضور الأمين العام للأمم المتحدة، واكتفى المجلس بالاستماع إلى تقارير من مساعد الأمين العام لشؤون الشرق الأوسط وآسيا والمحيط الهادئ، ومن مديرة شعبة الاستجابة للأزمات في مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا). هذا أمر معتاد في جلسات الإحاطة، لكنه يصبح موضع تساؤل حين يسافر رئيس وزراء دولة تمزقها الحرب آلاف الكيلومترات ليخاطب قاعة يغلب عليها رؤساء البعثات أو نوابهم، وفي توقيت ميت سياسياً بسبب عطلة أعياد الميلاد ونهاية العام.
النتيجة: الخطاب وُجّه عملياً إلى جمهور يمكن للسفير الدائم أن يخاطبه دون الحاجة إلى هذه الرحلة المكلفة سياسياً وبروتوكولياً.
خارطة طريق في غير مكانها
بحسب الإعلام الرسمي، هدف الزيارة كان تقديم “نسخة منقحة من خارطة طريق الحكومة لوقف الحرب”. غير أن مجلس الأمن ليس منصة تفاوض، ولا جهة لاعتماد المبادرات الوطنية. تقديم خارطة طريق في جلسة إحاطة، دون توافق دولي مسبق أو رعاية مباشرة من قوة مؤثرة، لا ينتج دعماً ولا التزاماً، بل ينتهي بانتهاء الجلسة.
إخفاق إجرائي جسيم داخل القاعة
الأخطر لم يكن مستوى الحضور، بل ما حدث داخل الجلسة. فقد رد مندوب دولة الإمارات بقوة على اتهامات رئيس الوزراء، وكان للسودان، وفق اللوائح، حق الرد الفوري. لكن بعثة السودان لم تطلب هذا الحق، فاختُتمت الجلسة بكلمة الإمارات، لتبقى هي آخر وأقوى ما علق في أذهان الحضور، وفي السِجل الرسمي للمجلس.
فهذا ليس تفصيلاً بروتوكولياً بسيطاً، بل خطأ إجرائي جسيم أضعف الموقف السياسي للحكومة، وترك اتهامات خطيرة بلا ردٍ داخل واحدة من أهم المنصات الدولية، ولا يمكن تبريره بالسياسة أو الظروف، بل بسوء التقدير والإعداد.
وضع البعثة في مأزق غير ضروري
إصرار رئيس الوزراء على البقاء في القاعة حتى نهاية الجلسة زاد الموقف تعقيداً. في الأعراف الدبلوماسية، يلقي القادة كلمتهم ثم يغادرون، تاركين للسفير الدائم إدارة الردود. لو غادر رئيس الوزراء بعد خطابه، لتمكن السفير الحارث إدريس من طلب حق الرد والرد بندية كاملة. لكن بقاءه قيّد حركة البعثة ووضعها في مأزق غير لازم.
حق الرد: ما الذي كان يجب أن يحدث؟
في الأعراف الإجرائية لمجلس الأمن، يحق لأي دولة التعرّض لاتهامات مباشرة أن تطلب حق الرد، وهو حق مكفول للسودان دون جدال. غير أن خصوصية هذه الجلسة كانت في حضور رئيس الوزراء شخصياً، وهو مقام سياسي لا يسمح له، بروتوكولياً، بالدخول في سجال مباشر مع ممثل دولة أخرى لا يعدو أن يكون موظفاً دبلوماسياً، مهما بلغت حدة خطابه.
لكن هذا الاعتبار البروتوكولي لا يسقط حق الدولة في الرد. وفي ظني أنّ بعثة السودان ستعكف على استرداد حق الرد بصورة مؤسسية عبر إعداد خطاب مكتوب ومفصل يُوجَّه إلى رئيس مجلس الأمن، يُفنّد ما ورد في كلمة مندوب دولة الإمارات، ويُطلب تعميمه رسميًا كوثيقة من وثائق المجلس. هذا الإجراء معمول به في الأمم المتحدة، ويُستخدم عندما تمنع الظروف السياسية أو البروتوكولية الرد الفوري داخل القاعة. فعلى الأقل، كان من الممكن لرئيس الوزراء أن يقول شيئاً في هذا الشأن خلال ال stakeout لولا أنّه عُقِد قبل بداية الجلسة، وعلى غير العادة.
غياب المؤتمر الصحفي الموعود
أحد مستشاري رئيس الوزراء صرّح بأن الهدف من الزيارة كان عقد مؤتمر صحفي دولي لعرض خارطة طريق الحكومة لإنهاء الحرب. غير أن هذا الهدف لم يتحقق على أرض الواقع، إذ لم يُعقد أي مؤتمر صحفي دولي بالمعنى المهني المعروف، واقتصر الأمر على stakeout محدود في ممرات الأمم المتحدة، في وقت كانت فيه أروقة المنظمة شبه خالية بسبب موسم الإجازات.
بهذا، ضاعت فرصة نادرة لتوظيف الزيارة إعلامياً، ولم يُستثمر الخطاب لا سياسياً ولا إعلامياً، ما يعكس مرة أخرى غياب التخطيط المحكم وسوء التقدير وضعف التنسيق بين مكتب رئيس الوزراء والبعثة الدائمة في نيويورك.
الخاتمة: من “كل حركة معاها بركة” إلى سياسة محسوبة
المشكلة لم تكن في ذهاب رئيس الوزراء إلى نيويورك، بل في الذهاب بعقلية “كل حركة معاها بركة” في ملف لا يحتمل العشوائية أو حسن النية وحده. السياسة الخارجية، خاصة في زمن الحرب، تحتاج إلى وضوح هدف، وحسن توقيت، وإعداد دقيق، وإدارة محترفة لكل تفصيلة داخل القاعة وخارجها.
إن لم تُستخلص الدروس من هذه التجربة، ستتحول مثل هذه التحركات من أدوات ضغط دبلوماسي إلى عبء سياسي إضافي، وتكرّس صورة التخبط والارتباك في إدارة أخطر ملفات البلاد، في وقت يحتاج فيه السودان إلى دولة تُحسن الحساب قبل الحركة، لا تراهن على “البركة” بعدها.
الواثق كمير
تورونتو، 22 ديسمبر 2025





