
حسيـن خـوجلي: حكايـة سـودانية غيـر قابلة للتـداول
• مـن وصايا أساتذتنا في الصحافة الذين احترفوها لا الذين حاضروا فيها قولهم بـ “أن الصحفي الذكي هو الذي يجعل كل فردٍ يجلس إليه مصدراً للمعلومة مهما كانت ثقافته ومهما كانت وظيفته ، لا يهم في الناس وضيعهم أو رفيعهم” ..
• فقد جمعتني الصدفة المفيدة بدبلوماسي سوداني دخل للمهنة بعلمه وذوقه وأناقته وإلى أن غادرها كان مثالاً وقدوةً لناشئة الدبلوماسيين . سألته عن حال المهاجرين والغرباء وطلاب اللجوء بعواصم السراب والضباب فحكى لي الكثير وقد اخترت منها هذه الحكاية لما تحويه من تدبر ومغازي.
• قال لي : دلفت يوماً باكراً للسفارة السودانية التي تتوسط إحدى العواصم الغربية الشهيرة ، وجدت في وجهي مباشرةً سيدة سودانية فوق الثلاثين يطل منها حزنٌ دافق استطاع بجزوته أن يخفي ملامحها السمراء الوسيمة . كانت تمسك بيدها اليسرى واليمنى طفلتين دون الخامسة التصقا عليها كهرتين مذعورتين يرقبهما ذئبٌ أغبر . سلمت علي في حياء وأدخلتها الاستقبال وطلبت لها ولطفلتيها مشروباً ساخناً في بلادٍ يقتل الجليد حيتانها فكيف بهذه المخلوقات الأفريقية التي (حمصها) خط الإستواء.

• رتبت مكتبي وطلبت من السكرتارية استدعاء السيدة ، جلست في مواجهتي وهي ما زالت تقبض في حذرٍ طفلتيها كأنما الذئب المتخيل يتأهب للانقضاض . رحبت بها بالمفردات السودانية المعهودة في مثل هذه الحالات حتى أُزيل وحشتها وانكسارها الذي لا يحتاج لدليل ، خفضت رأسها لدقائق حتى ظننت أنها أصبحت من هول ما يعتمل في نفسها خرساء ، فكأنما قرأت في نفسي هذا التوجس وحين رفعت رأسها هالني شلال من الدمع غطى الوجه كاملاً واتصلت قطراتٌ منه بفرش المكتب العتيق ، وبدأت في السرد بلا انقطاع .
• أغراني زوجي الذي يعمل كادراً سودانياً بإحدى المنظمات الأجنبية داخل السودان بالحصول على امتياز اللجوء السياسي كما أسماه وزينه لي بحزمة من الأقاصيص الملونة والأمنيات الحالمة حتى ظننت أنني مقبلةٌ على جنة الله في الأرض وعبر معارفه من الأجانب وأشباههم من بني جلدتنا حزمتُ حقائبي بعد أن بعت الغالي والرخيص واصطحبت طفلتي إلى هذا العالم المجهول .

• تمت الاجراءات متثاقله وقذفت في أقرب قمامة جواز سفري وادعيت المزاعم الكواذب في حق بلادي بأنني ناشطة تتعرض للتعذيب والمهانة والإذلال والازدراء وأن حقوق المرأة في بلادي مهدرةٌ وضائعة ، يسر لي أحد المعارضين من الذين يتقاضون أجراً مقدراً على حياكة مثل هذه الأقاصيص المشؤومة .
• نقلوني بعد اكتمال الإجراءات إلى إحدى مراكز اللجوء أو قل إلى إحدى الإسطبلات البشرية المختلطة ، منحوني غرفةً صغيرة أقل من حمام بيتنا الرحيب بأم درمان ، مطبخ مشترك وطعامٌ بائس وماسخ ودورات مياهٍ مشتركة وأناس رمت بهم مظالم العالم الثالث إلى مظالم العالم الأول ، تحولوا إلى مخلوقاتٍ مشوهة نتيجة الرحلة الباهظة مادياً وجسدياً ونفسياً ، قطيعٌ من الرجال والنساء من كل الأعراق والألسنِ والألوان ، عيونٌ جاحظة وألسنةٌ متلمظة بالشهوةِ والحرمان كلما شاهدوني وشاهدوا زهرتي الصغيرتين .
• ظللتُ لأشهر لا أنام فكل خطواتٍ تقترب من الباب أحس بأن مغتصباً أو مغتصبة يقتربون مني ومن بناتي ، ومن مطالعتي لهؤلاء البشر فقد لحظتُ أن هناك عدداً مقدراً من المثليين والسحاقيات والمتحولين والمتحولات من الذين جعلوا من هذه العاهة ذريعةً لنيل حق اللجوء .
• الآن يا سعادة السفير إمتلأ القلب والعقلُ بالخوف واليأس المفضي للجنون . وإن فقدت عقلي جراء خوفي على نفسي وطفلتي ، فستفقدون أسرةً سودانية أصيلة سيسألكم الله عنها يوم القيامة .
• وزادت على تلك المرافعة المحزنة تفاصيلٌ صغيرة مفجعة وهي تعايش حياة ذلك الإسطبل ، وإني رأفةً بالقارئ قد أخفيتها وفيكم فطانة .
• “ماذا تريدين؟!” سألتها بطريقةٍ عملية وأنا أخفي دموعي وشجني الداخلي وقد استحالت هذه الأسرة في نظري فجأة إلى كل قبائل السودان ومدنه وجغرافيته وتاريخه وثقافته وباقي الطيبات . سألتها بحزم إداري وبلغةٍ شبه جافة ، وفي الحقيقة كنت أواسي بها نفسي وأنا أستعيد وقار الوظيفة .
• قالت بانكسارٍ وحسرة وتوجع : *(أنا لا أريد شيئاً سوى الرجوع لبلادي اليوم وليس غداً)* ودخلت في نوبةٍ أخرى من الصمت والبكاء
اتصلت بزوجها بالخرطوم وحكيت له باختصار (العرضحال الباكي) والعريضة الدامعة . قال لي في جفاء : (لو أصرت على هذا القرار فأنا لا أمانع ، ولكن عليها أن تعد نفسها طالقة) وعندما حادثته وأكد لها قرارهُ قذفت بالهاتف السيّار وانفجرت كالبركان : (يا سعادة السفير إن هذا الديوث لا يستحق أن تبقى معه (بت قبايل) لساعةٍ واحدة (أنا حوش أبوي حدادي مدادي) لم يخلو يوماً من الضيوف والمسافرين والطلاب (حوشنا يا سيادة السفير يشيلني ويشيل مية متلي)
• وأخيراً أصبح القرار في ناظري واضحاً منها ومن زوجها ، ترفقت بها حتى سكنت وطلبتُ من أحد الإداريين أن يكمل إجراءاتها وسألتها بعد أن عاد لها بعض الإشراق يمكنكِ أن تظلي مع أسرتي حتى ميقات السفر أو ندبر لك نزلاً مناسباً بالجوار .
• وبعفة أهل السودان اختارت (هوتيل) بسيط ونظيف كان قريباً من السفارة ، مجموعة من الأسر السودانية زارتها مودعة وحملت معها باقة من الهدايا وذهبوا معها إلى المطار ، وكان كرنڤالاً دفيئاً لا تعرفه تلك العواصم شائخة الأرواح متيبسة الأنفس والحنايا ..!!
• ومن محاسن الصدف أنني بعد عامين من هذه الحادثة التقيت بهذه الأسرة بسوق أم درمان في معرضٍ للعطور لم أنتبه لها ولم تنتبه لي ، لكن الطفلتين كانا يمسكانِ بثوب والدتهما ويشيران لي خلسةً فانتبهت لي أخيرا محدقةً في الدبلوماسي الأشيب الذي غادر الخارجية اختياراً وفي قلبه دفترٌ من الحكايات المفرحة والمبكية . سلمت علي في إمتنانٍ عميق وكانت هيئتها الطليقة توحي بأن صفحة جديدة قد فتحت في حياتها لا أعرف أين موقع الزوج القديم فيها ، وعندما خرجت إلى الشارع الأمدرماني الفسيح المشبوب برائحة العرق والحذر والتوابل ، أدرت المذياع فلطمتني أخبار المشاكسات والخلافات السياسية وأنباء المجازر والمجاعة والاختناقات فقلت صارخاً لا هاتفاً : ليتني أجدُ منديل عباس بن الأحنف الشعري لأمسح به وجه بلادي المرهق :
_يا أَيُّها (الشعبُ) المُعَذِّبُ قَلبَهُ_
_أَقصِر فَإِنَّ شِفاءَكَ الإِقصارُ_
_نَزَفَ البُكاءُ دُموعَ عَينِكَ فَاِستَعِر_
_عَيناً لِغَيرِكَ دَمعُها مِدرارُ_
_مَن ذا يُعيرُكَ عَينَهُ تَبكي بِها أَرَأَيتَ عَيناً لِلبُكاءِ تُعارُ_
• وإن بقيت هنالك برقية توضع في بريد لصوص الحرب والسياسة والعمالة والذهب والكراسي واستدرار عز السفارات الحرام فهي : *(خذوا ما شئتم أيها الأغبياء الغافلون واتركوا لنا وطنا يصلح للعودة والاستعمال الآدمي)





