حسين خوجلي :وقطعاً هؤلاء من نسل الذئاب العباسية
ستظل سيرة الخليفة العباسي المعتصم أبد الدهر مرتبطةً بالظَفَر والشرف والبطولة، ومن منا لم تبلغه حكاية المرأة المسلمة في ثغور الروم التي اعتدى عليها بعض العلوج فصرخت “وا معتصماه”.. وظلت القبائل والبطون والبوادي والدساكر والحواضر تتناقل الصرخة المقدسة إلى أن وصلت بغداد وأذن الخليفة، فانتفض الخليفة غاضباً فأبى أن يكمل وجبته حتى يرتب استعداد جيشه العرمرم لثأر الكريمة المسلمة المفجوعة.
وقد وصل جيشه الهادر إلى عمورية مسقط رأس علج الروم وملكها فكانت الهزيمة التي هزت العالم انذاك، وقتل من الروم خلق عظيم وجاءت الغنائم، وفرض عليهم الجزية عن يد وهم صاغرون. وقد صحبه في تلك المعركة شاعر العربية والاسلام العبقري ابو تمام حيث وثّق الحدث المبارك بقصيدته الشهيرة:
*السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ*
*في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ*
*بيضُ الصَفائِحِ لا سودُ الصَحائِفِ في*
*مُتونِهِنَّ جَلاءُ الشَكِّ وَالرِيَبِ*
*وَالعِلمُ في شُهُبِ الأَرماحِ لامِعَةً*
*بَينَ الخَميسَينِ لا في السَبعَةِ الشُهُبِ*
وقيل في الأخبار والسير أن الخليفة المعتصم من غير جهاده وهيبته وعدله كان فقيها وداهية، وحين دنت منيته وقبل أن يُسلم روحه الطاهرة التفت إلى خاصته وقال بصوت فيه حزن الرحيل والمفارقة:
ترى ماذا ما الذي يقوله عني أهل بغداد؟
فرد عليه احد وزرائه وكان من أقاربه واصدقائه: والله إنهم ليذكرونك بالخير ويعتدون بك أميراً واماماً، بيد أنهم يأخذون عليك أنك قتلت (١٠) من المجاهدين في أمر تافه.
أبتسم الخليفة المجاهد إبتسامة مقتضبه وقال له:
والله لولا إنك قد ذكرتها لمتُ بسرها، وكشف عن خبايا الحدث قائلا:
حين خرجنا لمعركة عمورية مررنا ببساتين بغداد وعسكرنا هناك لليلةٍ تجهيزاً للجيش. وبعد فريضة المغرب سمعت ضجيجاً فقال لي الحرس: بان هنالك فلاح جريح يطلب مقابلتك ويلح في ذلك
فقلت لهم: دعوه يدخل.
فعندما حضر بين يدي صاح باكياً وجزعاً كيف يقيم جندك العدل يا أمير المؤمنين بين المشركين وهم يظلمون إخوانهم في الدين؟ وسرد حكايته باقتضاب ويسر وقال:
إن مجموعة من الجند دخلوا بستانه عنوة دون استئذان، وقد تغاضيت عن أمرهم حيث أنهم مجاهدون في سبيل الله يستحقون الاكرام فاكلوا من عنب البستان وفاكهته وتنعموا، ولكن أصابهم البطر وشح النفس فقاموا بإفساد الفاكهة ومشوا على العنب بأرجلهم وهم يتصايحون، بل أنهم اعتدوا علي وها هو جرحهم غائر على وجهي وأثر سياطهم على اكتافي.
فغضبت غاية الغضب وقلت لقادة الكتائب انشروا الجيش في وجه هذا الرجل حتى يخرج الذين اعتدوا عليه وعلى حديقته وثماره، وكان الرجل حذقاً فأخرج العشرة بثقة كاملة واعترفوا أمامي بفعلتهم المنكرة وقلت للفلاح صلي معنا الفجر وبعدها سوف ترى العقاب الذي يستحقونه.
وفي الهزيع الأول من الليل أرسلت لصاحب السجن في بغداد لأن يرسل لي (١٠) من الأشقياء الذين حق عليهم (القود) أي القصاص شرعاً. وأمرته أن يغطي وجوههم بقناع لا يبين الوجوه. وبعد أن حضروا لمعسكر الجيش ناديت على العشرة المفسدين بحديقة الرجل، فقلت لهم عليكم بالهرب قسم بالله الذي رفع السماء بلا عمد لو جاءني خبركم في امصار الخلافة لحصرتكم وأقمت عليكم حد القتل بتهمة الإفساد في الأرض فانتفضوا هاربين.
وبعد صلاة الفجر أمرت السياف بقطع رؤوس العشرة المساجين وخطبت في الجيش قائلاً:
إن الذي يظلم المسلمين لا يكتب له النصر ولا يقيم عدلاً على الكافرين.
واتعظ الجيش هيبةً من الحادثة والقصاص، وانطلقنا حتى بلغنا عمورية فكتب الله لنا النصر المبين.
انتهت..
وفي ظني أن العشرة المطرودين من المفسدين في الأرض بأمر الخليفة، والذين هربوا من وجهه وغادروا امبراطورية العباسيين لا يلوون على شئ قد بلغوا بهروبهم الكبير أرض السودان، وأن الذين يمارسون الفساد والتعدي والقتل والنهب والاغتصاب في الجزيرة هم قطعا من نسل هؤلاء الأشرار.
“”حاشية؛
إلى الشهداء والعفيفات الصابرين والصابرات الذين قدموا انفسهم طاهرة في سبيل العقيدة والسودان بقرية أزرق أهدي هذه الأبيات:
أزرق بالكفاح ضوت ضلام الوادي
وبالصبر الجميل كشفت جريمة السادي
*التلب الحصر غدر الكنابي وغادي
ومتين النسور عافت جداد الوادي
________________