حماية المدنيين في السودان: بين إلتزامات القانون الدولي وتحديات العدالة بعد الحرب
متابعات -تسامح نيوز

حماية المدنيين في السودان: بين إلتزامات القانون الدولي وتحديات العدالة بعد الحرب
مع إنحسار العمليات العسكرية في السودان وإنسحاب ميليشيا الدعم السريع من العاصمة بدأت تتكشف أبعاد الكارثة الإنسانية التي خلَفتها حرب طاحنة استمرت لعامين ،راح ضحيتها آلاف المدنيين بين قتيل وجريح ومهجَر،لم تميز الحرب بين المقاتل والمدني،إذ شملت الإنتهاكات ،القصف العشوائي ،القتل الممنهج ،التهجير القسري،التعذيب،والعقاب الجماعي مما جعلها واحدة من أسوأ الازمات الإنسانية في التاريخ الحديث ،وقد دفع الشعب السوداني ثمناً باهظاً من أمنه واستقراره وكرامته ،في ظل صراع دموي لم يرحم أحداً.
ومن الجدير الإشارة إلى أن الازمة السودانية تعكس الطبيعة المتغيرة للنزاعات المسلحة حيث لم يعد القتال يقتصر على ساحات المعارك التقليدية بل امتد إلى المناطق السكنية ،الاسواق والمرافق الصحية،مما أدى إلى تفاقم معاناة المدنيين في ظل انعدام الامن ونقص الغذاء والدواء ،وانهيار الخدمات الأساسية ،هذا الواقع المؤلم يفرض ضرورة اعادة النظر في آليات حماية المدنيين،لضمان عدم تكرار مثل هذه الفظائع ، إذ لم يعودوا مجرد أرقام في تقارير المنظمات الحقوقية ،بل هم أرواح أحترقت تحت نيران حرب شرسة،مما يجعل حمايتهم مسؤولية قانونية واخلاقية لا تحتمل التاجيل أو المساومة.
وفقاً لإتفاقيات جنيف ولائحة لاهاي الخاصة بقوانين الحرب وأعرافها ،يعرف المدنيون بأنهم الأشخاص المقيمون في إقليم الدولة وغير المشاركين في العمليات الحربية،ويشمل التعريف أيضاً الأفراد الذين لم يعودوا جزءًا من القوات المسلحة أو المليشيات، وأفراد الخدمات الطبية والدينية ،ووحدات الدفاع المدني، الصحافيين، والمتعاقدين من القطاع الخاص الذين يقدمون خدمات لوجستية،فضلاً عن الاجانب و اللاجئين، المحتجزين والمعتقلين.
تتحمل الدول المسؤولية الاساسية لحماية السكان المدنيين اثناء النزاع المسلح،كما تتحمل الجماعات المسلحة على حد سواء حماية المدنيين الذين يقعون تحت سيطرتهم بشكل مباشر بوصفها الجهات المسؤولة عن احترام القانون الدولي الانساني وتنفيذه، إستناداً لنص المادة الثالثة المشتركة من إتفاقيات جنيف الاربع،وأكدت الشريعة الاسلامية مبدأ عدم جواز قتل المدنيين كما ورد في قوله تعالى :”وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين”،مما يدل على أن حرمة المدنيين ثابتة في أحكام الدين والقانون معاً.
ومن هذا المنطلق فإن مبدأ حماية المدنيين من أخطار العمليات العسكرية يُعد حجر الزاوية في القانون الدولي الإنساني ،حيث يُحظر إستهدافهم،أو إخضاعهم لأعمال التعذيب أو القهر أو الإكراه ، إذ إن الهدف من الحرب وفقاً للقانون هي إضعاف المقدرة العسكرية للعدو،وليس التعرض لأولئك الذين لا يشاركون في القتال،أو الذين توقفوا عن المشاركة في العمليات العدائية،وقد أكدت محكمة العدل الدولية قاعدة أساسية في الفتوى الصادرة منها بشأن شرعية إستخدام أو التهديد بإستخدام الأسلحة النووية ، أن على الدول ألا تجعل المدنيين هدفاً للهجوم مطلقاً وعدم إستخدام أسلحة لا تميز بين الأهداف المدنية والعسكرية.
يتطلب تعزيز حماية المدنيين إتخاذ تدابير قانونية جادة،أهمها محاسبة مرتكبي الإنتهاكات الجسيمة بما في ذلك محاكمتهم امام القضاء ،وقد شهد العالم تقدماً في هذا المجال بإنشاء المحكمتين المخصصتين ليوغسلافيا السابقة ورواندا،إلى جانب اعتماد نظام روما الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية، مما عزز إمكانية مقاضاة مرتكبي الإنتهكات الجسيمة، وضمان محاسبتهم عما ارتكبوه من جرائم في الماضي وعما يرتكبونه في الحاضر والمستقبل.
وقد أصبح القضاء الدولي أكثر صرامة حيال منح العفو لمرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية ،مما يعزز مبدأ عدم الإفلات من العقاب ،ويرسل إشارات واضحة مفادها بأن لا أحد فوق القانون، لكن رغم الدور المهم الذي تضطلع به المحاكمات الدولية في تشجيع الامتثال للقانون الدولي ،إلا أن تنفيذ العدالة يعتمد بشكل أساسي على إلتزام وتعاون السلطات القضائية الوطنية ،إذ إن مسؤولية مقاضاة الافراد تقع في المقام الاول على الدولة المعنية ،ولا يمكن للعدالة الدولية إلا ان تكمل تلك الجهود عندما تكون الدول غير قادرة أو غير راغبة حقاً في التحقيق والمقاضاة.
وقد أثبتت التجارب المستفادة من رواندا وأماكن أخرى أن النظم القضائية الدولية والوطنية ،لا تمتلك الموارد الكافية لمقاضاة جميع المشتبه بإرتكابهم جرائم خلال النزاعات المسلحة ،الذين قد يصل عددهم إلى آلاف الأفراد ،وبذلك أصبحت آليات العدالة الإنتقالية وعلى رأسها جهود الحقيقة والمصالحة التي كانت تعد إجراءً إستثنائياً منذ سنوات قلائل،الان وسيلة فعالة لتجاوز الماضي ،بيد أن هذه الجهود لا ينبغي أن تكون بديلاً عن المقاضاة الفردية ،وأن يكون الهدف من هذه الجهود الجمع بين البحث عن الحقيقة ،والمساءلة على الإساءات الماضية وترسيخ المصالحة الوطنية وبناء دولة القانون.
إن حماية المدنيين من المخاطر والاضرار الجسيمة المترتبة على أهوال الحرب،مسؤولية قانونية واخلاقية ،تتطلب إلتزاماً دولياً صارماً بمبادئ القانون الدولي الإنساني ،ومع تزايد النزاعات الداخلية ،بات من الضروري تعزيز آليات المحاسبة والمساءلة لضمان عدم إفلات مرتكبي الجرائم من العقاب واحترام حقوق المدنيين في اوقات الحرب.