
د إيناس محمدأحمد تكتب: المحاربون الصغار!
د. إيناس محمدأحمد.
بسبب صعوبات الحياة وتحدياتها الكثيرة والقسوة في كل مناحيها لم تعرف المجتمعات القديمة أي شيء عن حقوق الطفل بل كانت تعاملهم مثل الكبار ويتم الاستعانة بهم لمواجهة متطلبات الحياة والغارة على القبائل وحصد الغنائم.
بعد معرفة الإنسان للزراعة البدائية كان يشارك فيها كل أفراد الأسرة وكان السعي لولادة عدد كبير من الأطفال للعمل مع أسرهم في الزراعة او الرعي ، تحت سلطة أبوية مطلقة إذ يحق للأب طرد أبنائه او بيعهم او قتلهم او رهنهم او تأجير خدماتهم للغير بسبب الديون .
من هنا ظهر الرق ، او إشراكهم في المعارك لجني الغنائم وهنا ظهر تجنيد الأطفال والدفع بهم في النزاعات المسلحة ، لم تكن تلك الأفعال محل استهجان او رفض من المجتمع لأنها كانت عادات وأعرافا سائدة .
تعرضت الطفولة لكثير من الانتهاكات المتفاوتة في العديد من الحقب ، الى ان ظهرت الأديان السماوية لاسيما الإسلام فحدثت طفرة هائلة في حقوق الطفل أحدثت تطورا حقيقيا وتطبيقا صادقا.
حينما قادت أوروبا الحملات الصليبية ضد الشرق بحملة مشهورة في التاريخ توجهت بها الى بيت المقدس عرفت (بحملة الأطفال )في العام 1212م وقتل فيها 30 الف طفل سقطوا قتلى وجرحى أثناء الحرب .
وفي العام 1764م افتتح لويس الخامس عشر ملك فرنسا ، اول مدرسة عسكرية ضم إليها اكثر من 200 طفل أعمارهم بين الثامنة والحادية عشرة خضعوا لتدريبات عسكرية صارمة ، منهم من مات أثناء التدريبات.
في القرن التاسع عشر ساد مفهوم عمالة الأطفال في أوروبا لذلك سعت فرنسا بين عام (1841م_وعام 1881م) لوضع قوانين تحمي الأطفال في أماكن عملهم من حيث الأجر ونوعية العمل ، ولم تكن عمالة الأطفال تشكل انتهاكا لحقوق الطفل في ذلك الوقت .
مع بداية القرن العشرين ظهرت مجهودات الحقوقية الناشطة البريطانية اغلاتين لويس جيب ( 1876م _ 1928م) والتي كانت تعمل في جمعيات خيرية لدعم الأطفال وسعت لإنشاء منظمة إنقاذ الطفولة وهي منظمة غير حكومية وأول حركةمستقلة تدافع عن الأطفال ، وصاحبة المقولة الشهيرة (كل جيل من الأطفال يقدم الى البشرية إمكانية إعادة بناء العالم المدمر) .
كما صاغت اعلان جنيف لحقوق الطفل بنفسها وشاركت في ندوات كثيرة عقدت في لندن وجنيف في العام 1922م ، ثم ذهبت لاجتماع الجمعية العامة وألقت بيانا قصيرا يحمل واجبات المجتمع نحو الطفل وكيفية تقديم المساعدة له ، وتم التصديق بالفعل على اعلان جنيف لحقوق الطفل كوثيقة دولية اعلنتها عصبة الأمم في العام 1924م .
هذا الإعلان كان أول وثيقة دولية خاصة بحقوق الطفل تضمن خمس نقاط هي حماية النمو الروحي والبدني للطفل ، الحماية القانونية والاجتماعية ، الإغاثة ، التدريب ، التآخي.
منذ ذلك التأريخ اكتسب الطفل حقوقا من جهتين الأولى كونه طفلا وأخرى كونه فردا في المجتمع الإنساني.
في العام 1946م أسست الأمم المتحدة صندوق الأمم المتحدة لاغاثة الأطفال( اليونسيف) وكان تركيزها على إنقاذ الأطفال بعد مأساة الحرب العالمية الثانية وما خلفتها من دمار واسع ، ووضع استراتيجية شاملة لحماية الطفولة .
في العام 1948م صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ونص في المادة 25 منه على حق الأمهات والأطفال للرعاية والمساعدة والحماية الاجتماعية والقانونية .
العام 1959م تبنت الأمم المتحدة إعلان حقوق الطفل الذي يضم مجموعة من الحقوق للطفل منها حق الحياة والتعليم واللعب والرعاية الصحية والبيئة الداعمة .
جاء العام 1966م مع إقرار العالم بالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، وكانا بمثابة الداعم للحقوق الإنسانية ومنها حقوق الطفل .
العام 1978م قامت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة بوضع مسودة اتفاقية دولية للطفل ودعت للمشاركة فيها كل الدول الأعضاء والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية .
في العام 1979م أعلنت الأمم المتحدة العام الدولي للطفل بمناسبة مرور عشرين عاما على تطور حقوق الطفل والاعتراف بها دوليا.
ثم أصدرت الأمم المتحدة القواعد الدنيا النموذجية لإدارة شؤون قضاء الأحداث التي تفصل مجموعة المبادئ المعززة لمصالح الطفل والمناسبة للأطفال المحتجزين وطرق معاملتهم وتعليمهم وتقديم الخدمات الاجتماعية لهم ليعودوا مرة أخرى عناصر إيجابية للمجتمع .
ثم وضعت الأمم المتحدة عبر منظمة اليونسيف في 20 نوفمبر 1989م اتفاقية حقوق الطفل ، وكانت حدثا عالميا كبيرا ، لجمع حقوق الطفل في وثيقة دولية واحدة تتفق عليها أغلب دول العالم .
في 25 مايو 2000م تبنت الأمم المتحدة برتوكولين اختياريين لاتفاقية حقوق الطفل ، الأول يلزم الدول الأطراف بمنع مشاركة الأطفال في النزاعات المسلحة ، والثاني يمنع بيع الأطفال واستغلالهم في الأعمال الإباحية.
في العام 2011م أقر برتوكول جديد ملحق بالاتفاقية ، يسمح للجنةحقوق الطفل برفع شكاوى بشأن انتهاكات حقوق الطفل وفتح التحقيقات عنها.
السودان من أوائل الدول التي وقعت وصادقت على اتفاقية حقوق الطفل وكان ذلك في أغسطس 1990م ، بل ونصت على ذلك في دستور 2005م الانتقالي في المادة 32 (5) حيث نص “تحمي الدولة حقوق الطفل كما وردت في الاتفاقيات الدولية والاقليمية التي صادق عليها السودان “.
وصادق أيضا على برتوكولاتها اللاحقة كلها ، وصدر أول قانون للطفل ٢٠٠٤ ثم قانون الطفل ٢٠١٠ ، وتم إنشاء المجلس القومي لرعاية للطفولة ، و شرطة ونيابة ومحاكم خاصة للأطفال .
الجدير بالذكر ان اتفاقية حقوق الطفل صادقت عليها اكثر من 196دولة وهي بذلك تعد أعلى اتفاقية دولية صادقت عليها الدول في التاريخ .
تجنيد الأطفال هو أخطر انتهاك يواجه الطفولة لأنه يهدد حياة الطفل مباشرة لاسيما مع تزايد الحروب والنزاعات المسلحة ، ورغم الاهتمام الدولي والاتفاقيات الدولية الكثيرة التي تمنع مشاركة الأطفال في النزاعات المسلحة الا انه لا زال استخدام الأطفال كجنود في الحرب وفي نقل المعدات و الاسلحة و المشاركة في عمليات التخريب والإرهاب .
نظرا لأنهم اقل كلفة من الكبار كما يسهل السيطرة عليهم وعلى عقولهم وتغذيتها بأفكار وآراء أيا كانت ، وهم أقل إدراكا لحجم الخطر الذي يواجهونه ، ومن الراجح أنهم ينفذون ما يؤمرون به دون نقاش .
نجد أن المحكمة الجنائية الدولية أقرت أن تجنيد الأطفال دون سن الخامسة عشرة او استخدامهم في الأعمال الحربية يشكل *جريمة حرب*، وكان المؤتمر الدولي السادس للصليب الأحمر والهلال الأحمر في ديسمبر 1995م قد أوصى بعدم إشراك الأطفال دون سن الثامنة عشرة في الأعمال الحربية واعتمدت هذه التوصية في المؤتمر الدولي السابع للصليب الأحمر في العام 1999م .
اتفاقية حقوق الطفل 1989م نصت على سن التجنيد خمس عشرة سنة الا ان عددا من الدول عبرت عن عدم موافقتها على ذلك السن وأنها تفضل سن(18)الثامنة عشرة كما نص عليه في مؤتمر الصليب الأحمر وفي الميثاق الافريقي لحقوق الطفل ورفاهيته وكذلك نص على سن الثامنة عشرة (18) عاما في البرتوكول الاختياري لاتفاقية حقوق الطفل المتعلقة بالنزاعات المسلحة .
ارتكبت المليشيا الإرهابية العديد من الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب في حق المدنيين ، منها تجنيد الأطفال حيث وثقت بعثة الأمم المتحدة الدولية المستقلة لتقصي الحقائق التي كونت بموجب القرار A/HRC/RES/54/2
في ديسمبر 2023م .
واوردت في تقريرها ان المليشيا تجند أطفالا اقل من الخامسة عشرة وتدفع بهم في العمليات الحربية ويتم تجنيدهم في بعض الأحيان بالإكراه واستغلال حاجة أسرهم للغذاء والماء والدواء ، في حالات أخر يتم خطف الأطفال وإرغامهم علي المشاركة في العمليات العدائية واستخدامهم في نقل المعدات والأسلحة والذخائر .
مما عرضهم للموت تحت نيران الحرب او متأثرين بالاصابات او نتيجة الجوع والعطش وعدم وجود الرعاية الصحية ، مما دعا لجنة حقوق الطفل التابعة للأمم المتحدة الى طلب تحقيق عاجل حول تجنيد الأطفال .
كما أن الهزائم المتكررة للمليشيا وقتل عناصرها جعلها تلجأ الى تجنيد مرتزقة على أساس قبلي مما أسهم في مشاركة مئات الأطفال في العمليات العدائية ، وأشارت تقارير أولية دولية الى ان ثمانية وستين( 68 ) الف طفل تتراوح أعمارهم بين عشر سنوات الي سبع عشرة ضمن صفوف المليشيا .
كما أن المليشيا تستخدم الأطفال كدروع بشرية عبر إشراكهم في الصفوف الأمامية للقتال.
كانت اليونسيف قد أعلنت في سبتمبر الماضي عن موت الأطفال في السودان نتيجة الهجمات العدائية وأضافت ان عام 2023 شهد أعلى معدل للانتهاكات الجسيمة التي تم التحقق منها ضد الأطفال منذ أكثر من عقد من الزمان ، وان 72% من الانتهاكات شملت قتل الأطفال ، وتجنيدهم قسرا والعنف الجنسي .
وبحسب تقارير تلقتها المنظمة الأممية حول تجنيد ما يقارب ثمانية آلاف طفل قسرا في صفوف المليشيا ، أربعة آلاف منهم شاركوا في معارك الخرطوم ودارفور ومنطقة بليلة في ولاية غرب كردفان ، وأفادت التقارير ان السودان تقدم بشكوى بذلك للأمم المتحدة.
كما اعلن المركز الأفريقي للعدالة و دراسات السلام عن نداء عاجل للمليشيا لوقف تجنيد الأطفال في ولاية وسط دارفور للانضمام للمليشيا الإرهابية .
وقد نشرت العديد من مقاطع الفيديو عبر الوسائط لعدد من الأطفال المجندين في صفوف المليشيا الذين أصيبوا اصابات بالغة في العمليات الحربية أثناء هجوم المليشيا علي سلاح المدرعات بالخرطوم ، وناشدت منظمات مجتمعية وحقوقية المليشيا وقف تجنيد الأطفال والزج بهم تحت نيران الحرب .
تجنيد الأطفال دون سن الخامسة عشرة يعد جريمة حرب وانتهاكا لاتفاقية حقوق الطفل والبرتوكول الاختياري الملحق بها الخاص بمنع تجنيد الأطفال وكذلك يخالف القانون الدولي الانساني.
وبغض النظر عن كيفية تجنيد الأطفال وأدوارهم في المعارك فإنهم في كل الأحوال ضحايا لتحقيق مطامع الارهابيين الذين يستخدمونهم ويجبرونهم على المشاركة في الحرب ومن ثم يقعون فريسة للأمراض النفسية طويلة الأمد ، ومن تكتب له الحياة سيعاني من اضطرابات نفسية جسيمة ، او إصابات بدنية تسبب لهم إعاقة تلازمهم مدى الحياة .
في سبتمبر 2024م اتهم النائب العام مولانا الفاتح طيفور المليشيا بتجنيد تسعة آلاف طفل قتل منهم في المعارك الحربية اربعة آلاف واربعمائةواربعة وتسعون (4494) طفلا.
هذا العدد يعد كارثة إنسانية حقيقية للطفولة في السودان ، وعلى المجتمع الدولي إدانة المليشيا الإرهابية بتجنيد أطفال دون سن الخامسة عشرة والذي يعد جريمة حرب تضاف الى سجلها الإجرامي .
اللهم انصر القوات المسلحة نصرا عزيزا يا الله سبحانك لا ناصر لنا الا انت.