المقالات

د..شنان محمد الخليل يكتب:هل سنبكي مرةً أخرى!!

الخرطوم تسامح نيوز

 

… ولأنها بذرت فينا بذور التفرد و التمرد…لا كغيرنا … ولأنها سقت فينا غرس الكرامة …النابت أصلاً …ولأنها “جمّرتنا” بنيران حبها….فخرجنا فيها أكثر لمعاناً وأشد بريقاً…وأنقى معدناً ….ولأنها زرعتنا في نقطة بالغة التعقيد والتوتر بين “الكف” و”العين” …ولأنها علمتنا أبجدية جديدة في عشق الوطن ….لذلك كله ….ولغيره كان لزاماً علينا أن يكون حبنا لها حباً صوفياً و عرفانياً عارفاً …(آه ِ من حبك قد أشجي وأشجن …وتمكن) … نعم فالانتماء إلى كلية الشرطة حينها كان ولا يزال… (حضوراً) يصعد المرء فيه في مدارج السالكين …و (طابوراً) يُنَظِّم الخُطى فيجعلها أكثر اتساقا … الانتماء إلى كلية الشرطة لم يكن انتماء إلى مهنة فقط ولن يكون كذلك…ولكنه انتماء إلى جغرافيا … وتاريخ…ولغة….هو انتماء إلى مناخ نفسي …ومناخ اجتماعي…انتماء إلى دفعة…. وإلى إرث مهني تليد …هو انتماء إلى الوطن وترابه…وتزاوج معه يجعل العلاقة به أكثر حميمية …أن تتعبد ..و ..(تتعذب) راقداً …وقائماً…وقاعداً… ومرتكزاً…و ..نائماً أيضاً !! ثم تكتشف أنك لم تكن تتعذب وحدك …ولا كنت تتعبّد وحدك ….فهذا هو المحراب …وأن كل الذي كنت تقوم به ما هو إلا (طقوس) في محراب الحب للوطن… هو انتماء للتراب الذي نزفت فيه عرقك..ودمك….ووقفت فيه آلاف الساعات (مصلوباً)…صيفاً وشتاءاً وخريفاً…في هذا الوطن … وتحس التواصل بينك وبينه….حتى تشعر في لحظةٍ ما بأنه صار امتدادا (حياً لجسدك) …أو صرت أنت (تجسيد حي) لروحه…وعندها…تبحث عن (نمولي) في جسدك …فلا تجدها … وتبحث عن (الكرمك) …فلا تجدها …فتدرك حينها أنك أصبحت ممزق الأطراف !! وحينها يصير الصمت أصدق من الكلام ..والعين أكبر من الكف …والكف أكبر من هيكل الجسد …وفي لحظة الصدق المطلق …والانتماء المطلق والحنين المطلق أيضاً…في لحظة كهذه تشعر بالفخر لانتمائك لمثل هذا الصرح …رغم الجراح…ورغم تمزق الأطراف…تشعر بالفخر والتواصل مع تاريخ أنت الآن تشكل لبنة من لبناته…(كذباً بالقلب أن يعشق في غير وصال…كذباً بالعشق أن يصدق في غير وصال )…فالانتماء إلى كلية الشرطة هو انتماء إلى الباتيرا والحاج ضرار و الدقَنّة .. وهو انتماء إلى كوة حسب النبي ألمي ومحمد جمع …ومحمد سلمى عطرون وحسن تيه …مثلما هو انتماء إلى أحمد الوداعة عثمان و لويس سدرة موريس …و بابكر أحمد عبيد …بعض الأسماء المسكونة إبداعاً وحباً لهذا الوطن ولهذه المهنة…الذين يعطون في صمت ويرحلون في صمت…ليصنعوا تاريخاً وسِيْراً كسير وتاريخ الخالدين… هم بعضاً من أبناء هذا الوطن…الذين كانت هذه الكلية تشكل لهم (النسيج الداخلي)…وتجري في عروقهم مجرى الدم …فغرسوا فينا هذا الحب والعشق …فاكتشفنا روعة الكلية في شموسها القاسية في ميدان الباتيرا وميدان لويس سدرة ….اكتشفناها في نهاراتها الغائظة و القائظة الحر ..وفي لياليها القارصة و القارسة البرد …وفي (المراية) …وفي رائحة (نوّار) النيم الذي يملأ شذاه أرجاء الكلية عند العودة من الإدارة الداخلية فجراً …في صباحاتٍ رمادية حزينة …وجدناها رائعة هكذا …(فامتحضناها) …(وطناً) نحمله في دواخلنا …و (كوة) أطللنا عبرها على حقول وميادين الإبداع…(ومحراباً) نتنسك فيه لعبادة الله وخدمة الوطن…إن تغنينا فيها (عذبني وتفنن في ألوان عذابي….ما ترحم دموعي ما ترحم شبابي) اتهمنا بـ(الماشوسية) … إن عملنا فيه ونفّذنا ما تعلمنا في غيرنا اُتهمنا بـ(السادية) …وإن رحلنا عنها سكنتنا …سكنتنا …وتمكنت في الحنايا وفي الخلايا …فنبتعد عنها لنزداد لها شوقاً…”فأنت لا تهرب من الشيء مادام الشيء الذي أنت هارب منه مستوطن في داخلك “…(وبكينا مرةً أخرى …مزاج الحب يسري دافئاً فينا …فنحزن …ربما والعود دندن )… بهرب منك…و إنت الحب العاش في كياني …عاش في كياني !!

آهـٍ …آهـ …لو أني أعلم أن البحر عميقٌ جداً ما أبحرت …لو أني أعلم خاتمتي ما كنت بدأت ..ولأتمثل قول المتنبئ …مالي أُكَتِّم حباً قد برى جسدي …ربما والعود دندن …والشاطئ الغربي يشهد أيها الشرطي و اللبخ الشهيد … هل سنبكي مرةً أخرى كما كنا كثيراً …

مزاج الشعر سال .

*د.شنان محمد الخليل*

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى