
متابعات | تسامح نيوز.
في ذات صباح من صباحات القاهرة وفي شارع فرعي بمدينة عابدين لفت نظري تجمع سوداني محدود.. غريزة القطيع دفعتني إليهم فعرفت منهم انها محطة لترحيل السودانيين العائدين إلى البلاد.. مصطلح (العودة الطوعية) دا ما راكب لي في راسي.. ما علينا خطأ شائع خير من صحيح مهجور.. طوعية طوعية.. شيئا فشيئا بدأت الأعداد تتزايد وعربات نص النقل تنزل في الشنط والامتعة فتذكرت الراحل المقيم هاشم صديق في مسلسل قطر الهم (عفش الناس الجايي يناهد بالكيمان) ثم اكتظ المكان بالمسافرين والمودعين والاخرين لا يقل عددهم عن الأولين…إنها حالة الانقسام الأسرى والتشظي التي أصابت هذا الوطن المنكوب… هاجت بي الذكرى للوطن لشطآنه للدار الوريفة (وهو اصلا لم يغادرني لحظة ) أصابني حنين جارف.. طاب لي المكان فلم اغادره يومها لا بل أصبحت دائم التردد عليه إذ وجدت فيها سلوى وتخفيف من وطأة الغربة فمع جمال القاهرة وبهرجتها وحيويتها الا ان الشعور بأنني غريب ديار وغريب أهل لم يفارقني فـ(في السودان همي وعزايا) فأصبحت صديقاً للعاملين فيه من شباب منظومة الصناعات الدفاعية التي تتكفل بترحيل هؤلاء العائدين من هذة المحطة من الألف إلى الياء إذ لايدفع المسافرون جنيها واحدا لا في اكل ولا في شرب ولا في استراحة إلى أن يصلوا محطتهم الأخيرة وتفعل المنظومة هذا تأسيساً على البند الذي خصصته للمسؤولية المجتمعية الأمر الذي يشي إلى مرونة في التعامل مع المستجدات فالحرب الماثلة أمر طارئ وبالتالي كل افرازتها طارئة
☐ اول سؤال تبادر إلى ذهني.. ياربي الناس ديل سعداء بهذة العودة ام مجبورين عليها؟ ام هو خيار ام الخير لا هو خير ولا الموت اخير؟ . لم اسأل احد منهم بل كنت اتفحص وجوههم و استمع للحوارات التي تدور بينهم… يفرق الصوفية بين السمع والاستماع.. فالأول هو الذي يفرض نفسه عليك إذ لايمكنك إغلاق اذنيك عن السمع كما تغض الطرف عن النظر…والثاني هو الذي تسعى إليه ..فانا قمت بتحويل السمع إلى استماع (يعني المخالفة بسيطة) وليشفع لي طلب المعرفة.. بعضهم تبدو السعادة في وجهه وما يصدر منه من كلام وبعضهم تشعر بأنه مهموم وبعضهم بدأ لي وكأنه متخوف … شابة تقول لاخري تجلس بجوارها… كلو من امي الكوزة دي هي المصرة على المشي للسودان فتلتفت إليها امها وتقول لها ايوا مصرة مصرة لأنه مصيرك ترجعي ولا انتى عاوزا تقعدي هنا للمقابر…. فترد الشابة.. ما قلنا حاجة… اصلا راجعين راجعين لكن يا ماما خلي البلد تتصلح شوية.. ردت الأم… البصلحها منو ونحن متجدعين هنا لا شغل ولا مشغلة.. تساءلت الابنة : ياماما نحن بنجيب محطة الكهرباء ؟ نحن بنعمل مستشفى؟ نحن بنفتح مدرسة؟ نحن بنوفر أمن؟..نحن حكومة؟ لم تستسلم الأم..الحكومة دي لو ما نحن قعدنا ليها
قدام عينيها وساعدناها ما بتعمل لينا الحبة… أحدهم اوقف البوكسي واخد يشيل ويردم في العفش وفوق ذلك كان لديه طقم كراسي فجاءه شاب لا أدري إن كان من المسؤولين ام يتبع للبص السياحي فقال له يا حاج الكراسي دي.. مافي طريقة ليها.. فرد لكن اوديها وين؟ انا اشترتيا وخلاص عزلت من الشقة فتدخل ثالث وقال له ياحاج خلي الزول المودعك دا يرجعها للمكان الاشتريتن منه… المصريين ديل كويسين جداً في الحتة دي برجعوها طوالي ولو عصروا عليك بيعملوا خصم بسيط … كان أحدهم يحمل كمنجة ويبدو أنه منتشي بعض الشي.. فسألته هل هو سعيد بالكمنجة ام العودة فقال لي الاثنين فالكمنجات هنا برماد القروش (والله لو عندي قروش اكنت شحنت لوري كامل كمنجات) فقلت والله انت اللفيهم… انه سحر الفن…
اما أكثر اللحظات تأثيراً وأظنها هي السبب في مداومتي للحضور هي لحظات الفراق عندما ينادي الشاب المسؤول.. يلا يا جماعة البص رقم كذا… ويردد الرقم بصوت جهور.. فهنا تشهد العناق الحار وتقبيل الأطفال والدموع التي تبلل الخدود واللحي حتى البيضاء منها وتسمع النحيب والانين فينبعث صوت إبراهيم عوض من دواخلك ..
ساعة وداعنا انا دايرك تحضر
ما تقول نسيت لازم تتذكر
الناس تتباكي والدموع تتقطر
بتقطع قلبي انت لو تتأخر
أبيت الناس وابيت خلاني /خاصمت الكل عشان حباني
الدموع هي سيدة الموقف إذ جمعت بين المسافرين والمودعين والمتفرجين والفضولين لقد بدأ لي حتى الشباب المسؤلين عن التفويج اغرورقت عيونهم فتتذكر ( الن باتون ) في رواية وتبكي يا بلدي الحبيب ( والله دا ما الدايرنو ليك يابلادي الطيبة… والله يجازيك يا…)
ادهشني شباب منظومة الصناعات الدفاعية الذين يقفون على تنفيذ عمليات التفويج إذ يأدون عملهم بجد وصبر واناءة (طولة بال شديدة) مراعين للحالة النفسية لهؤلاء المسافرين الاستثنائين… سألت مسؤولة المسؤلية المجتمعية في المنظومة وهي في حالة حضور دائم للموقع لدرجة ان احدهم أنعم عليها برتبة فريق… عن حجم العملية ومستقبلها فقالت لي ان عدد رحلاتهم وصلت حتى الآن إلى ١٣٠ (مائة وثلاثون) رحلة بواقع خمسين شخصا في كل رحلة وان وجهات الرحلات متعددة على حسب سكن العائدين فوصلوا القطينة والمسعودية والسريحة و الهلالية ومدني وعطبرة بالإضافة للخرطوم وقالت انهم يتوقعون زيادة مهولة في العدد بعد انتهاء الامتحانات وأنهم يعدون العدة لذلك..فقلت لها اعملوا بالحكمة الشعبية.. كتر السفر وقلل الرحل… أي كتروا عدد الباصات على حساب الخدمات الإضافية.. وربنا يعينكم……… ويعين السودان ذلك الوطن الذي ليس لنا من وطن سواه.. ويا وطنا نهواه
رغم المحن •
د.عبد اللطيف البوني
/حاطب ليل