
ظن الناس في السابق أنني حكيم، وشديد الاتزان لا يكاد يغيرني شيء ولا حدث ولا شخص، وثابت كسندان فشلت كل المطارق في ثنيه، فظنوا أنني لا أحب الضحك ولا كثر الكلام ولا النزهات ولا أعتبر السجائر غير رماد ولا النساء سوى دمى ورقية مزعجة.. وأرمق كأس الكحول مثل كوب من الدم لفرط تقززي منه.. ويدفعني للسهر التأمل في أحوال المجتمع وتفاوت طبقاته ومٱزقه بالإضافة إلى انزعاجي من صوت الضحك العالي والمستمر أسفل المبنى.. لكن الحقيقة كلها أنني خائف.. لأن جوابا بالرفض على دعوة للسهر في النادي الليلي لم يصدر عني أنا.. بل من شخص خائف.. ومبلغ خوفه ألا يجيد رفع صوته أثناء الحديث أو إلقاء النكات أو أن يفشل في تقديم النخب أو أطباق الكعك.. وأن تصيبه حالة الفصال التي يراها الناس نوعا من بله لا مبرر له، فيتركوه متهامسين عن سر حالته، وأختفي أنا تدريجيا أجر خيبتي وحرجي.
كانت العزلة دليل عبقرية ودهاء، في الهرب.. لا أكثر، كيف يتجنب المرء خسارة القتال، ببساطة عبر الانسحاب، فٱثرت الوحدة خوفا من خوض غمار صداقات سيئة وفاشلة، أو الإصابة بداء الترك وجروح الصدمات العاطفية بعد عطاء مفرط.
وكان إخفاء براعتي في الرسم والنحت عن الناس.. ليس دليل نضج واعتداد بالنفس وزهد في الثناء والتشجيع، بل خوفا من النقد والخطأ.. أو النجاح والإعجاب الشديد..
كانت حساسيتي تزداد يوما بعد يوم، وعندما توقفت البنت التي أحبها عن زيارة المخبز الذي أعمل فيه.. علمت أن مراسم قرانها قد اقتربت، وأن وجها كان يمنح اليوم معناه والصبح لونه لم يعد لي بعد، ولا يجوز لي كحكيم متزن التفكير فيه مرة أخرى.. وانتهت تضحياتي برحيل عن البلدة التي لم أترك ذكريات فيها مع أحد.. لأنني كنت مشغولا جدا بمحو أثري عن كل مكان نزلته، حتى صرت منسيًا تماما، مثل طائر عجل.. لا يحسب الناس ريشه، ولا يعدون طيرانه ارتحالا ولا فقدا.. لكنه طيران شديد الخفة.. لا لإقلاعه ريح ولا لهبوطه دوي.. محض طيران فحسب.