المقالات

د. ياسر محجوب الحسين يكتب :إعلام الآخر.. خطل النمذجة

تسامح نيوز | الخرطوم

كثيرا ما تهزم الممارسات الفعلية على أرض الواقع الأطر التنظيرية، وهذا ما نلمسه على سبيل المثال في تطبيقات وممارسات الإعلام الغربي. حيث يمكن ملاحظة أن التصنيفات المعيارية المختلفة للنظم الإعلامية تتخذ من النموذج الغربي لاسيما الأمريكي معياراً للمقارنة، حيث يعتبر النظام الإعلامي الليبرالي وتطويره في إطار المسؤولية الاجتماعية، نظاما يفترض أن يوفر للفرد والمجتمع الحرية والديمقراطية في كل المجالات الممارسة. وتهدف النمذجة هنا لفرض فهم أو انطباع إيجابي عن الإعلام الغربي، تعضده حالة ذات تأثير مزدوج؛ فالآخر (الغرب) تدفعه وتؤزه نظرة استعلائية، بينما (الشرق) المستهدف بالنمذجة يمسك بتلابيبه شعور الدونية.

ويبدو أن مفهوم الحرية والديمقراطية في النظم الإعلامية المختلفة ذو طابع جدلي نتيجة للتفسيرات المختلفة له، واختلاف السياقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يعمل في إطارها. وفي نظام السوق – كما في الغرب – يصعب على وسائل الإعلام ممارسة دورها المتوقع أو المثالي في دعم الديمقراطية والحرية والدفاع عن الصالح العام والرقابة على السلطة والأجهزة البيروقراطية. ومن وظائف الاتصال عموما والإعلام تحديدا، التوجيه، والتثقيف، والترفيه، والتعارف الاجتماعي. ويهدف نموذج الإعلام الغربي بهذا التوجيه إلى تكوين اتجاهات فكرية في المجتمعات المستهدفة محققة لأهدافه ومصالحه في السيطرة العسكرية والاقتصادية وجعل تلك المجتمعات مجرد أسواق وحدائق خلفية.

النمذجة المفروضة غربيا على الدول المستضعفة مُستلهمة من الأطر النظرية الحالمة وليس من واقع الممارسة المأزومة بالاستعلاء، باعتبار الوظائف الثلاث للإعلام التي تندرج في إطار: ابتداءً الوظيفة الإعلامية والتي يمكن إيجازها في تقديم المعلومات إلى الأفراد وإقناعهم بها والتأثير في سلوكهم. أما الوظيفة الثانية فهي الوظيفة الحضارية التي تُعنى ببلورة الطابع القومي داخل الدولة الواحدة، وخلق الشعور بالانتماء لقومية معينة على المستوى الإقليمي. أما الوظيفة الثالثة فهي الوظيفة السياسية التي تساند السياسة الخارجية للدولة. مع العلم أن هناك خصوصية لاستخدامات الإعلام في الدول النامية، تتمثل في غرس الشعور بالانتماء إلى أمة أو وطن واحد، كما تعمل على تعليم الشعب مهارات جديدة، ومن هذه الاستخدامات أيضا غرس الرغبة في التغيير وزيادة آمال وطموحات المجتمع بحيث ترغب في اقتصاد متطور ومجتمع متحضر منعتق من سيطرة الآخر، فضلاً عن تشجيع الأفراد على المساهمة ونقل صوتها إلى السلطات السّياسية. وتحتاج المؤسسات السّياسية هنا إلى الخطاب الإعلامي لإنجاز خمس وظائف أساسية: التوحيد، وإضفاء الشرعية، التوجيه، حل الصراعات، وتنفيذ السياسات. فالخطاب الإعلامي إذا كان متسقاً مع المبادئ والأهداف يمكن أن يُساعد على توحيد الرؤى وبلورة الرأي العام حول قضية ما. ويمكن أن يساهم بعقلانية الطرح في إزالة التوتر وحل الصراعات، كما يمكن أن يمهد لتنفيذ السياسات.

إن الاتصال سمة ملازمة للمجتمعات البشرية منذ الأزل، باعتباره جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية للإنسان الذي يوصف بأنه كائن اتصالي؛ ولا تقوم للمجتمع الإنساني قائمة دون نظام للاتصال الذي اعتُبر شرطا من شروط بقاء المجتمع البشري. والاتصال مفردة تعني نقل المفاهيم بقصد الإقناع وهي عملية أساسها خلق الترابط في الحركة. كما تشير إلى مشاركة في الأفكار والمعلومات عن طريق إرسال وتوجيه وتسيير، ثم استقبال بكفاءة معينة وخلق استجابة معينة في وسط اجتماعي معين. وتاريخ البشرية من عصور نقوش الأحجار إلى بث الأقمار وتقنيات أجهزة الاتصال الذكية، يمكن رصده متوازياً مع تطور وسائل الاتصال التي تربط بين الأفراد والجماعات. ويشهد ذلك التاريخ أن الاتصال كان دوما وراء كل وفاق أو صراع؛ فكلاهما – كما ورد في ميثاق منظمة اليونسكو- ينشأ ابتداءً في عقول البشر. ويؤكد العلماء دائما على أن الاتصال نشاط أساسي للإنسان، ومعظم ما نقوم به في حياتنا اليومية، إنما هو مظاهر مختلفة لما ما نعنيه «بالاتصال» الذي يحدد بدوره معالم الشخصية الإنسانية من خلال ممارساتها الاتصالية، ماذا يعرف الإنسان وكيف يشعر، وماذا يعمل؟.

ويمكن أن نفكر في آثار وسائل الإعلام بعدة طرق، حيث إن هناك آثارا فردية، وأخرى مجتمعية، فعلى المستوى الفردي: يمكن أن تؤثر وسائل الإعلام في زيادة عدوانية الأفراد، ومعارفهم، واتجاهاتهم، وأنواع المنتجات التي يشترونها، وهذا ما يُعنى به إعلام الآخر. أما على المستوى المجتمعي، فإن وسائل الإعلام يمكن أن تعيد رسم النظم السياسية والقضائية والرياضية والاقتصادية والثقافية العامة، وهذا ما يفترض أن يُعنى به إعلام الدول الواقعة تحت قصف وتجريف إعلام الآخر.

إن العولمة الإعلامية هي نتيجة حتمية للثورة الاتصالية وللتطور الُمذهل في وسائل الاتصال والنقص الكبير في الإنتاج الإعلامي والثقافي على مستوى دول العالم النامي. وبهذا تربع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية على عرش إنتاج الثقافة التي تهيمن وتسيطر على معظم وسائل الإعلام العالمية. وهنا تبرز خطورة أن المنُتِج يفكّر بقيم ومعتقدات وبأفكار وأيدلوجية لا تخرج عن الإطار المرجعي لثقافته وبيئته ومجتمعه ومصالحه بالضرورة.

إن النموذج الوطني لإعلام يواجه إعلام الآخر (الـمُتعدي)، يجب أن تكون العلاقة في إطاره بين السلطة والرأي العام، علاقة متبادلة وذات شقين، فالرأي العام يؤثر على الحكومة، كما أن الحكومة تؤثر على، والرأي العام يؤثر بصفة مباشرة على الحكومة عن طريق الانتخابات والاستفتاءات الحرّة وقياسات الرأي العام. ويمكن للسلطة السياسية أن تؤثر في الرأي العام بطريقة إيجابية، وذلك بمنح المعلومات التي تملكها أجهزتها، لتعينها على تشكيل الرأي العام وتوجيهه أو إعلامه وتثقيفه من منطلقات الأهداف الوطنية العليا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى