
أمواج ناعمة
يلفت تنظيم قطر لمونديال كأس العالم لكرة القدم 2022، الأنظار إلى مقومات الدولة الحديثة وتأثيرها عبر القوة الناعمة على بقية أجزاء العالم. فلم تعد الترسانات النووية ولا الأساطيل البحرية العسكرية وأسراب الطائرات المقاتلة هي المعيار الوحيد لقوة تأثير دولة من الدول؛ فعبر القوة الناعمة تكتسب الدولة قوة روحية ومعنوية تبدو جلية في تجسيد الأفكار والمبادئ والأخلاق وعبر دعم مجالات حقوق الإنسان والبنية التحتية والثقافة والفن، الأمر الذي يفرض احترام الآخر.
وحتى الدول الكبرى لا تستغني عن القوة الناعمة وتلهث لهثا وراء امتلاك أسبابها، على سبيل المثال تحدث الرئيس الصيني في عام 2007 مؤكدا أن الصين بحاجة إلى زيادة قوتها الناعمة. كما تحدث وزير الدفاع الأمريكي عن الحاجة إلى تعزيز القوة الناعمة الأمريكية عن طريق زيادة الإنفاق على الأدوات المدنية من الأمن القومي بالدبلوماسية، والاتصالات الاستراتيجية، وتقديم المساعدة الأجنبية، وإعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية. وليس سرا أن الدول المتقدمة عسكريا هي ذاتها التي تتصدر قائمة الدول الحائزة على القوى الناعمة، مثل الولايات المتحدة وألمانيا والمملكة المتحدة واليابان وفرنسا وسويسرا وأستراليا والسويد والدنمارك وكندا.
ولعل قطر ظلت حتى ما قبل المونديال الذي حتما سيعضد قوتها الناعمة، تكتسب كل يوم مصادر جديدة لقوتها الناعمة المتصاعدة سواء عبر الإعلام أو الرياضة أو الأعمال الإنسانية. وتمثل ذلك في قبول قيمها السياسية في الداخل والخارج. واقتناع الآخر بسياستها الخارجية حيث ازدياد القناعة بأنها موضوعية وأخلاقية. ولقد أصبح بشكل متسارع ملاحظة الدور الفاعل للقوة الناعمة في السياسة الخارجية للدول. ولا ينسى العالم الدور الفاعل والايجابي لقطر في قضايا دولية وإقليمية، على سبيل المثال لا الحصر، في كل من أفغانستان ولبنان وفلسطين والسودان وتشاد. ويبدو أن قطر وهي تعتمد القوة الناعمة إستراتيجية وطنية، تدرك أنها تتعدى كونها مجرد تأثير على الآخر، إذ أن التأثير يمكن أن يعتمد أيضا على القوة التقليدية، فالقوة الناعمة هي أكثر من مجرد الإقناع أو القدرة على اقناع الآخر بالحجة، فهي كذلك القدرة على الجاذبية التي تفضي إلى الرضا.
والقوة الناعمة Soft power مفهوم صاغه الأمريكي جوزيف ناي من جامعة هارفارد لوصف القدرة على الجذب والضم دون الإكراه أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع. بل تم استخدام المصطلح للتدليل على القدرة على التأثير في الرأي العام سياسيا واجتماعيا وتغييره من خلال طرقى وأساليب ربما أقل شفافية والضغط من خلال منظمات المجتمع المدني والأطر السياسية. ويقصد بالقوة الناعمة كذلك توظيف أدوات الإقناع والاستمالة والابتعاد عن أساليب الضغط والترهيب في إدارة العلاقات الدولية؛ كأدوات الدبلوماسية العامة، وتوظيف الأبعاد الثقافية والتعليمية والإبداعية. ويرى جوزيف ناي أنه مع القوة الناعمة «أفضل الدعايات ليست دعاية»، وأنه في عصر المعلومات، تعد المصداقية أندر الموارد. إن أذكى مناهج القوة الناعمة أن تجعل الآخرين يريدون ما تريد، ليس بالطبع إكراههم بالتهديدات، زلكن تحفيزهم بالدافع، وجذبهم واستضافتهم لجعلهم يريدوا ما تريد.
إن القوة الناعمة التي أجادت قطر استخدامها وتطويعها لا سيما في مجال السياسة الخارجية، قد عززت مكانة الدولة وزيادة قدرتها على تحقيق مصالحها الوطنية، بل ساهمت قوتها الناعمة في زيادة جاذبيتها وجعلها قائدة في منطقتها ونموذجا تسعى الكثير من الدول للتحالف معها وتبني نموذجها.
لقد نجحت قطر على سبيل المثال في المسألة الأفغانية فيما لم تستطع الأمم المتحدة القيام به؛ فالأمم المتحدة تعيق حركتها وفعاليتها، قوانينها وطبيعتها باعتبارها منظمة دولية تتحرك في هامش محدود ومعلوم، غير أن قطر تمكنت عبر تأثيرها الدبلوماسي منفردة من حل معضلة الانسحاب الأمريكي السريع وربما الفوضوي من أفغانستان، فتفوقت بامتياز على رتابة وبطء إجراءات المنظمة الأممية وتحركاتها السلحفائية. إن جميع المبادرات القطرية في البقع الساخنة حول العالم تمكنت عبر قوتها الناعمة من استبعاد الحلول العسكرية لهذه الأزمات، وتوفير إمكانية السماح بوصول المساعدات الإنسانية للمتضررين، والعودة الآمنة والطوعية للاجئين. في محيطها الإقليمي تمكنت قطر من امتصاص تداعيات الحصار إبان الأزمة الخليجية من خلال تَعاضُد ترسانة القوة الناعمة مع الدبلوماسية التقليدية في مواجهة تلك الأزمة.
ومن نافلة القول إن نجاح العمل الدبلوماسي في عمومه مرتبط بصناعة وبناء الرأي العام الدولي عبر مثل هذه المبادرات يسندها إعلام احترافي. والرأي العام الدولي تعبير تلقائي عن وجهة نظر معينة تتعدي حدود الدول لتعبر عن نوع معين من التوافق بين دول بعينها تكون مجتمعاً إقليمياً أو دولياً وذات تأثير على مجريات الاحداث خارج إطار حدودها. وتكمن أهمية الرأي العام الدولي في أنه يشكل قوة ضاغطة ورافعة للجهود الدبلوماسية. فالرأي العام الدولي المساند للدبلوماسية الوقائية يمثل جزءاً أساسياً من نظرية العلاقات الدولية. كما يمثل أحد مظاهر التعبير عن نظرية القوة الضاغطة كجزء مهم من النظرية السياسية.
اليوم يلقي مونديال قطر 2022 ضوءا كاشفا على التطوير المستمر للبنية التحتية القطرية التي وصلت مستوى عالميا بديعا، وضمنت بقاء قطر باعتبارها وجهة مفضلة للزوار والمستثمرين من المنطقة والعالم كله. كذلك سيطلع العالم على نظام تعليمي متطور وخدمات رعاية صحية نوعية في متناول الجميع. فضلا عن توفير الدولة لنمط عيش مزدهر لجميع القطريين بكل فئاتهم. ولعل الأمر الأكثر لفتا للنظر أن هذا المونديال جعلت الدوحة منه وعاءً لصون الثقافة القطرية ودعمها، وتشجيع الطابع المتسامح للمجتمع القطري، وتبنيه القيم الإسلامية المتمثلة في العدالة والتضامن الاجتماعي وعمل الخير، إضافة إلى دعم العادات والتقاليد المتوارثة.