
تسامح نيوز – الخرطوم
أمواج ناعمة
تبدو الخرطوم اليوم وكأنها تجلس على فوهة بركان قوامه تسوية سياسية معلبة ومعيبة تقوم على مشروع خارجي غير وطني لا ينفصل عن مشروع الفوضى “الخلاقة” المعلوم، الذي بدت ثورات الربيع العربي إحدى أهم آلياته، علم الثوار العرب بذلك أم لم يعلموا. فالحالمون سموه ربيعا والمتربصون وراء الكواليس جعلوه صيفا قائظا يأتي على الأخضر واليابس. اليوم في السودان تُستيقظ الفتن النائمة ويصبّ الزيت على نارها؛ فمن الفتن القبلية والعنصرية في النيل الأزرق مرورا بجنوب كردفان وانتهاءً بدارفور. ولعل الرافعة الأكبر للفوضى في البلاد تلكم الكتل الجهوية والقبلية التي انتظمت في مليشيات شديدة التسليح، وتدخل المعترك السياسي عطفا على قوتها وعتادها.
العسكريون بشقيهم (الجيش القومي وقوات الدعم السريع) تنقصهم الدربة السياسية، وإن كان الجيش باعتباره مؤسسة قومية عريقة تعمل بشكل تلقائي على تجاوز هذه الاشكالية لكونها اشكالية ظرفية مرتبطة بالقادة الحاليين كأشخاص، إلا أن هذه الاشكالية بالنسبة لقوات الدعم السريع فتبدو اشكالية بنيوية ومتأصلة لأسباب متعلقة بنشأتها وبذهنية قائدها. فبالرغم من أن الرجل تحت سيطرته قوات ضاربة قوامها نحو 40 ألف مقاتل ومصادر دخل تدر أموالا طائلة لكنه لا يستطيع لعب دور سياسي احترافي، فهو كما ينظر له من الخارج مثل صاحب شركة أمنية كبرى كـ “بلاك ووتر” تقدم خدماتها الأمنية مقابل المال فمثلما قدم خدماته لنظام الرئيس عمر البشير مقابل تمكينه من مساحات واسعة تضم أغنى مناجم الذهب في البلاد، فقد قدم خدماته للاتحاد الأوروبي في مجال محاربة الهجرة غير الشرعية عبر المتوسط وقبض ثمنها، وما زال يقدم الرجل خدماته في اليمن وسبق أن طلب منه تقديم خدمات في ليبيا لصالح الجنرال خليفة حفتر.
ولعل قوات الدعم السريع لا يعتبرها الكثيرون قوات نظامية ولا هي في الحقيقة قوات غير نظامية فقد تم ضمها للجيش السوداني شكليا لكنها احتفظت باستقلاليتها وبطبيعتها غير النظامية حيث بقيت على إشكالاتها التكوينية من حيث الانتماء الجهوي لأفرادها ومن حيث التزامها العسكري وفقا لما هو متعارف عليه في الجيوش النظامية حول العالم. وقبل اسابيع ثار جدول بسبب تصريحات لنظار القبيلة التي ينتمي إليها قائد الدعم السريع، يقول فيها (ولدنا خط أحمر) محذرا من التعرض له، والصحيح أن الوطن خط أحمر وليس الشخصيات لأنها فانية ويبقى الوطن.
ويعتقد بعض الأكاديميين أن الميليشيات تمثّل شكلًا خاصًا من أشكال العنف المنظم الذي يسعى إلى اكتساب الشرعية السياسية. ويقول البروفيسور بول ريكست أستاذ دراسات الأمن القومي في الكلية الحربية للجيش الأمريكي، أن الميليشيات تنظر إلى نفسها على أنها تحمي مجموعة سياسية أو عرقية أو قبلية أو دينية أو عائلية محددة من الأذى، بسبب الثغرات التي يعتقد أن الدولة غير قادرة أو غير راغبة في سدها. وتعمل الميليشيات، باعتبارها قوى لملء الفراغ، كأوصياء محليين يتدخلون لتوفير القوة السياسية أو السلامة العامة. وغير قوات الدعم السريع هناك عديد من المليشيات المسلحة تابعة لحركات التمرد السابقة في دارفور والنيل الأزرق، ليضاهي حال المليشيات في السودان حالها العراق وسوريا وليبيا واليمن.
من جانب آخر، وفي اطار الصراع المفتعل بين المدنيين والعسكريين الذي ظهر بعيد اسقاط نظام الرئيس البشير ضغط المدنيون لإزاحة اثنين من الجنرالات من ذوي الخبرة السياسية والأمنية وهما رئيس اللجنة السياسية بالمجلس العسكري السابق ومدير الأمن الأسبق، فانكشف ظهر العسكريين سياسيا وأمنيا مما ساعد في تهيئة بيئة ملائمة للفوضى الأمنية والسياسية. وفي حادثة فض الاعتصام في القيادة العامة للجيش تواطأ الطرفان مدنيون وعسكريون فيها بعد اتفاقهما على استحواذ السلطة دون غيرهم. ويحاول التحالف المدني ابتزاز العسكر باعتبارهم هم من نفذ والتنفيذ دليل قوي على تورطهم. بينما سال لعاب المدنيون ساعة الفض سيلا عرما وبقيت عيونهم جاحظة تلقاء كراسي السلطة وقد انتهى دور الشباب الذين تظاهروا واعتصموا فكان لابد من فضهم بأي طريقة وبأي وسيلة دون ان يقال لهم سعيكم مشكور فقد كان المهرولون إلى السلطة في عجلة من أمرهم لإكمال مراسم الزواج السلطوي مع العسكريين.
إن أحداث منطقة النيل الأزرق جنوبي شرق البلاد أكدت أن السودان يعيش السودان وضعا أمنيا وسياسيا مقلقا، فما إن ينتهي صراع قبلي فيه حتى ينشأ آخر في مكان ما من البلاد. وتعود جذور الصراع في إقليم النيل الأزرق إلى مئات السنين، لكن قبضة الدولة المركزية حالت دون انفلات الأوضاع.
اليوم يعمل العسكريون وبعض من احزاب تحالف الحرية والتغيير على تسوية تستند إلى مسودة دستور مقدمة من اللجنة التسييرية لنقابة المحامين، ويصر البعض على أنها نسخة مترجمة لأصل أعدته سفارات أجنبية بعينها. في المقابل تعد قوى سياسية مستبعدة مناهضة هذه التسوية عبر الخروج في مسيرات احتجاجية وهي ذات الجموع التي خرجت من قبل وطالبت بطرد رئيس بعثة الأمم المتحدة فولكر بيتريس بسبب انحيازه لطرف بعينه وهو قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي. وتصف هذه القوى التسوية بأنها تسوية سياسية حكيت في الغرف المظلمة ومرتبطة بالاجندة الخارجية التي تريد اعادة صياغة الواقع السياسي وتجاهل القوى الحية ذات الوزن الشعبي والمعبرة عن الطيف السوداني الواسع. وتلوم هذه القوى قيادة الجيش الحالية لعدم ايفائها بالتزاماتها بعد قرارات 25 أكتوبر من العام الماضي والتي سميت بتصحيح المسار. حيث التزم قائد الجيش بالوقوف على مسافة واحدة من الجميع وضرورة اشراك جميع القوى السياسية في اتفاق حول الفترة الانتقالية. ستطالب جموع تظاهرات اليوم السبت الجيش بعدم تسليم البلاد لوكلاء الخارج المستهدفين لقيم المجتمع وهويته. وتسعى هذه التظاهرات لأن ترسل رسالة قد تعيد التوازن للمسرح السياسي وترسم الصورة الحقيقية لتوجهات الرأي العام الرافض للتدخل الأجنبي والعازم على على إسقاط أي تسوية ثنائية لا تعير الاجندة الوطنية الاهتمام اللازم.