أخبارالمقالات

د. ياسر محجوب الحسين يكتب: خيار المقاومة.. التفاوض صناعة بيروقراطية.

تسامح نيوز | الخرطوم 

أمواج ناعمة

تصاعدت بشكل مطرد ومذهل عمليات المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي في الفترة الأخيرة، بعد سكون حذر من جانب المقاومة، وقد جاء لصالح تركيز الاحتلال وتكريسه، مع تزامن صعود متوال لليمين المتطرف على صعيد السياسة الداخلية لدولة الاحتلال وكأنما هذا «السكون» يزداد بشيوع التطرف اليهودي وارهاب المقاومين بالقبضة الحديدية وزيادة الاجراءات العسكرية والأمنية الباطشة. منذ شهر سبتمبر الماضي شهدت الأراضي المحتلة لا سيما الضفة نحو 833 عملا مقاوما؛ كان آخرها الأسبوع الماضي حيث قتل إسرائيلي وأصيب 19 بجروح جراء تفجيرين داخل محطتين متقاربتين للحافلات غرب القدس المحتلة. وهاتان العمليتان تعتبران نوعيتين وفي عمق دولة الاحتلال ولم يحدث مثلهما منذ أكثر من 6 سنوات.
لقد أدرك الشباب الفلسطيني المقاوم أن السكون والتفاوض مسار مغلق ومحكوم بموازين القوة المادية المختلة على الأرض، وأنه ليس أكثر من فخ وصناعة بيروقراطية يهدف إلى تكبيل العمل المقاوم، ومنع قطف ثمار الانتصار العسكري على الأرض. ولم يشهد تاريخ حركات التحرر الوطني في العالم مرة واحدة أن التفاوض وحده قد أزال احتلالا. وانما يأتي التفاض في مرحلة لاحقا يكون نتاج المقاومة اقناع المحتل بالرحيل؛ فالتفاوض هنا يكون لأجل ترتيب رحيله ومغادرته بلا رجعة. ولعل مفاوضات أوسلو على مدار ثلاثين سنة ونيف جعلت من جولات التفاوض عملا عبثيا بل ومخزيا.
شباب المقاومة الذين تُسدّ بهم الثغور ويتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، قدموا أمثلة بطولية قل نظيرها في وقتنا هذا. إنهم على دراية وقناعة وهم يقدمون دماءهم، أن ‏لا شيء في الحياة يعيش لنفسه، فالنهر لا يشرب ماءه، والأشجار لا تأكل ثمارها، والشمس لا تُشرق لذاتها، الزهرة لا تعبق لنفسِها. لقد كانت الثورة التي قادتها حركة فتح في بداية الستينيات بداية الجهد الفلسطيني المُنظم بشكل واضح في وجه الاحتلال، لكن تلك الثورة انتهت على أعتاب سلطة فلسطينية بلا سلطة وبدون أفق سياسي استراتيجي وأعناق خاضعة لاحتلال متجبر مستكبر، بل ظلت تلك السلطة معينة له في مطاردة المقاومة الصاعدة والمؤمنة بعبثية السكون والخضوع لهذا الاحتلال لا يرقب إلًّا ولا ذمة في أطفال ونساء فلسطين. لكن أبرز ما يميز العمل الفلسطيني المقاوم اليوم هو اندماج مقاتلي حركات المقاومة بمختلف توجهاتها الفكرية في مجموعات مسلحة موحدة، مثل مجموعة «كتيبة جنين» في مخيم جنين ومجموعة «عرين الأسود» وكتيبة «مخيم بلاطة» في نابلس. فهذه التشكيلات المقاومة أظهرت تطورا جديدا في المشهد السياسي في الضفة الغربية على وجه الخصوص والتي غاب عنها العمل المقاوم المستدام الموجع للاحتلال منذ أن أصدرت السلطة الفلسطينية مرسوما في 2007 بحظر كافة المجموعات المقاومة المسلحة. بل مضت أجهزة الأمن التابعة للسلطة في حملة اعتقالات واسعة طالت مئات المقاومين الفلسطينيين الشرفاء. لتعلم السلطة الفلسطينية أنه كلما زادت محاولاتها تعطيل العمل المقاوم استجابة لمتطلبات أمن الكيان الاحتلالي، ازدادت معها عزلتها في الشارع الفلسطيني، خاصة أنها بقيت غائبة عن الطموحات الفلسطينية وما زالت تراهن على المفاوضات التي لن تجدي نفعا.
وبالفعل فقد تجازو الشباب الفلسطيني السلطة الفلسطينية بما في ذلك حركات المقاومة التقليدية التي تراجع عملها المقاوم وانحسر. إن الأمر الذي صعّب مهمة الاحتلال هو أن العديد من الشباب المنضمين حديثا للمقاومة غير مدرجين على قوائم المتابعة والمراقبة الأمنية، وهذا يعني أنهم خارج مدى الرادار الأمني الإسرائيلي وحتى خارج مدى الرادار الأمني للسلطة الفلسطينية. إن إرادة المقاومة التي تحلى بها هؤلاء الشباب جعلت من عملية «كسر الأمواج» وهي آخر ما أنتجه الاحتلال من تكتيكات عسكرية، تقف عاجزة عن وقف تصاعد العمل المقاوم، وكذلك تحييد الأخطار والتهديدات وتحديد نوعية الشباب التي تلتحق بالمقاومة والمناطق التي يخرجون منها والبيئات التي تدعم المقاومة. إنها الثقة بالنفس، وإن الثقة بالنفس هي أول ما يمكن توفره لتحقيق الأعمال الجليلة الباهرة. لقد أعلنوا حرب الفرح وديمومة الحياة في مواجهة العدو والجرح. فقد كان كبرياء الجرح عندهم عيدا فضحـكوا من مسرحيات السياسة والتفاوض العقيم.
إن الاحتلال أصبح يألم كما يألم الشعب الفلسطيني لكنه لا يرجو من الله ما يرجوه هذا الشباب الفلسطيني. إن الفلسفة الربانية التي يقوم عليها الحض على مقاومة المحتل ترتكز على درء الفتنة ودفع الظلم وحماية الدين والقيم. يقول الله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾، فالعلاقة ما بين أن يكون الدين لله وانتفاء الظلم؛ هي أن منظومة من القيم الأخلاقية وغير الأخلاقية التي ترتكز على مفهوم العدل، هي التي تؤسس للعلاقات الإنسانية في المجتمع الإنساني، مما يجعلها أقرب إلى العدل وأبعد عن الظلم، في حين أن مجافاة دين الله سوف يفقد ذلك الاجتماع الإنساني تلك المنظومة المرتكزة على العدل وإعماله، مما يؤدي إلى جنوح تلك المجتمعات نحو الظلم، وقيام علاقات مجتمعية ظالمة في مختلف مجالات الحياة الإنسانية.
إن العمل المقاوم يبدو اليوم أكثر إلحاحا مع تولي المتطرف إيتمار بن غفير أحد زعماء تحالف «الصهيونية الدينية» حقيبة الأمن الداخلي في حكومة بنيامين نتنياهو الجديدة، والمطالب باجتياح الضفة الغربية عبر خطة قدمها تتضمن اجراءات عسكرية وأمنية ضد الفلسطينيين تعتبر الأقسى في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي. وهذه الدولة الغاصبة هي دولة كهنوتية حيث أضحى يحكمها متدينون يهود متطرفون، يدّعون أنهم وكلاء لله على الأرض. ولعل الراجح أن الثيوقرطية نشأت أولا لدى اليهود، ويرجح أن اليهود تأثروا في خيارهم هذا بمواريث مصر الفرعونية حيث كان الفراعنة يُعتبرون أربابا يعيشون بين الناس ويحكمونهم باسم الحق الإلهي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى