المقالات

د. ياسر محجوب الحسين يكتب: علمانية الدولة وجدلية التنوع والتعدد

الخرطوم – تسامح نيوز

من روائع الحِكم أنه ‏لا شيء في الحياة يعيش لنفسه؛ فالنهر لا يشرب ماءه، والأشجار لا تأكل ثمارها، والشمس لا تُشرق لذاتها، والزهرة لا تعبق لنفسِها، لكن المجتمع الإنساني بعد تجارب لا تحصى عبر تاريخ ممتد كله صراعات وحروب طاحنة لم يصل إلى صيغة تعايش تقبل التنوع والتعدد باعتباره طبيعة وفطرة في بني البشر.
ومنذ 76 عاماً عقب نهاية الحرب العالمية الثانية غدا المجتمع الدولي فريقان: (سيد) و(تابع) ولسان حال (السيد) يقول لـ(التابع): اصمت إلى الأبد! وإياك أن تتخذ قرارك، وأن ترفع صوتك، وأن تعلي صرختك، وأن تعلن موقفك بل إياك أن تمارس إنسانيتك، بل أضحت الفلسفة المادية بكل تجلياتها النظرية والتاريخية المختلفة، تشكل البنية الفكرية التحتية للفلسفات الحديثة الطاغية والمتحكمة كالماركسية والبرجماتية والداروينية، لاعتبار ذلك مرجعية مفروضة لرؤية التاريخ والتقدم وللعلاقات الدولية.

ومن ممارسات (السيد) المتجبّر على (التابع) المستضعف النظرة الفوقية التي نتاجها الطبيعي العنصرية المتمثلة في أيّ ممارسة أو تصرف أو معتقد ناشئ عن تلكم النظرة الفوقية، والنظرة الفوقية ترفض فطرة التعدد والتنوع التي تجسدها فروق حقيقية وعناصر موروثة في البشر وقدراتهم بسبب انتمائهم لجماعة أو عرق ما، ومن ثم تبرير معاملة هذه الجماعة بشكل مغاير اجتماعياً أو قانونياً، اعتقاداً من (السادة) أن أجناسهم متفوقة بطبيعتها على غيرها، وهذا ما يمعنون في اتخاذه مبرراً للتعامل مع المجموعات أو الأعراق المهمشة من البشر والقائمة على بعض الصور النمطية والخرافات، على أساس اللون أو الانتماء القومي أو اللغوي أو غيرهما.

كان من المفترض بعد الحرب العالمية الثانية الاعتراف بالتعددية الدينية، أي الاعتراف بوجود تنوع في الانتماء الديني في المجتمع الدولي مع احترام هذا التنوع وقبول ما يترتب عليه من اختلاف أو خلاف في العقائد، باعتبار ذلك درساً مستفاداً يحول دون نشوب صراع يهدد السلام والأمن الدوليين، وكذلك التعددية السياسية وهي مشروعية تعدد القوى والآراء السياسية وحقها في التعايش وفي التعبير عن نفسها وضمان وحماية مصالحها.

لقد غيرت الحرب العالمية الثانية الخارطة السياسية والعسكرية والبنية الاجتماعية في العالم، وأدت إلى إنشاء الأمم المتحدة التي تضمنت أدبياتها تعزيز التعاون الدولي ومنع الصراعات في المستقبل، بيد أن الدول المنتصرة ميّزت نفسها وأصبحت أعضاءً دائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وفي الوقت نفسه، أسّست هذه الدول مخالب تعزز سيطرتها على الأخر سياسياً واقتصادياً، في شكل منظمات اقتصادية دولية مثل صندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، ومنظمات حقوقية وإنسانية توجه سهامها لثقافة الآخر تجسيداً للنظرة الفوقية.

وكان ثمة انفصام بيّن ظاهر بين أدبيات ومواثيق منظمة الأمم المتحدة وواقع العلاقات بين الدول والشعوب، فعندما يطلع المرء عليها يحسب أن الكون كله يعزف نشيداً، فمنذ عقود مضت، نادى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بالمساواة التامة بين كُلّ أفراد العائلةِ الإنسانيةِ، وأوضح أن الكرامة الإنسانية لا تتجزأ، في عام ٢٠٠٤ أصدرت الأمم المتحدة تقريراً بعنوان “الحرية الثقافية في عالمِ اليومِ المتنوّعِ” والذي تم الاعتراف فيه للمرّة الأولى في تاريخ تقارير برنامج التنمية البشرية بالحرية الثقافية بوصفها “جزءاً حيوياً في عملية التنمية البشرية”، وأكد التقرير على “عمق الأهمية التي يمثلها الدين لهويات الشعوب، لكن هذه القيم الرائعة يحيلها الواقع الأليم إلى خرافة.

اليوم في السودان وبإيعاز من (السيد) يستعر جدل علمانية الدولة التي يراد بها إعادة صياغة المجتمع والإنسان السوداني في الإطار المادي الغربي، وصولاً إلى تنميط حياة الناس مع سيطرة وهم التحكم الكامل فيها، فـ(السيد) الذي لا يعترف إلا بثقافته وبضرورة فرضها على الآخر الذي لا تساوي في خَلَده ثقافة الآخر ولا معتقداته جناح بعوضة!، مطلوب من السودان استبدال شعائره وثقافته بالعلمانية، ويقول دعاة العلمانية ويزعمون بأن دولة المواطنة في إطار العلمانية تعني تساوي الجميع أمام القانون، وهذا القانون المراد فرضه لا يستجيب ليس لحقوق ثلة من المواطنين فحسب وإنما لا يستجيب لحقوق الغالبية العظمى من المواطنين.

إن كان القانون المقصود – وهو كذلك بدون شك – هو قانون على هدى علمانية الدولة، فهو بالضرورة يهضم حقوق المسلمين في حقهم في التعبد واتباع دينهم.. كيف ذلك؟ إن كل ما يتعلق بقوانين الأحوال الشخصية؛ كالزواج، وولاية الرجل، والميراث وغير ذلك فهي قوانين تعبدية، أي أنها من صميم العبادة في الإسلام فكيف تحرم أغلبية من حقها في التعبد وتجبرها على قوانين علمانية لا تعترف بل تستحقر التشريعات الإسلامية، حتى الاستعمار البريطاني للسودان لم يقرب قوانين الأحوال الشخصية وتركها ولم يتدخل لتعديلها، وهذا الحق التعبدي لا يقتصر على قوانين الأحوال الشخصية فحسب، بل ينسحب إلى فقه المعاملات التجارية وفروع البيع وما ورد نصاً في القرآن الكريم عن الربا.

وحتى الزعم بأن الإسلام وقوانينه تجافي المدنية مردود عليه في اعتراف المؤرخ الإنجليزي هربرت ويلز الذي يقول: “كل دين لا يسير مع المدنية في كل أطوارها فاضرب به عرض الحائط، وإن الدين الحق الذي وجدته يسير مع قرأ القرآن وما فيه من نظرات ومناهج علمية، وقوانين اجتماعية، فهو كتاب دين وعلم واجتماع وخُلُق وتاريخ، وإذا طُلب مني أن أحدد معنى الإسلام؛ فإني أحدده بهذه العبارة: الإسلام هو المدنية”.
إن كل مزاعم تتجاوز حقيقة هذا الاعتراف ما هي إلا أمعية فكرية ومظاهرة للفكر الغربي خشية الاتهام بالتخلف أو التعصب، وليعلم أولئك أن الجذور الإنسانية والحضارية والثقافية للمجتمعات ليست حزمة نباتات زينة يعاد وضعها وترتيبها في أي مكان يناسبها حجماً وموقعاً ولوناً.

yasirmahgoub@hotmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى