أخبار

د. ياسر محجوب الحسين يكتب: غياب الدولة ومقاربة الأمن القومي للآخر  

تسامح نيوز | الخرطوم 

أمواج ناعمة

تتمحور منطلقات العملية السورية المتوقعة في شمال سوريا حول مقاربة تركية لتعزيز أمنها القومي انطلاقا من رؤية سادت بين الدول بشأن أمنها القومي، فجعل ذلك من المجال الأمني للدول متسعا يزيد مداه بعلاقة طردية كل ما زادت قوة وجبروت دولة من الدول. وبدت مصطلحات مثل الاحتواء والردع والتوازن عناوين بارزة في مثل هذه المقاربات بهدف تحقيق الأمن القومي. ولعل الانتشار الكثيف للأسلحة والتطور النوعي الذي شهدته في عالم اليوم، أدى إلى تعديلات في النظام الدفاعي للدول وكذلك ثوابتها التقليدية الموروثة. فليس غريبا ذلك التشابك بين الأمن القومي ومفهوم القوة، لاسيما بعد بروز المدرسة الواقعية التي رسمت فكرة التنافس من أجل القوة في العلاقات الدولية، وبحيث يُنظر للأمن على أنه مشتق من القوة وأنه أداة لتعظيمها.
اليوم تشترط تركيا انسحاب ما يعرف بقوات سوريا الديمقراطية (وحدات حماية الشعب الكردية) المدعومة أمريكيا، بشكل رئيسي من مدن في شمال سوريا مثل منبج وعين العرب وتل رفعت. واشترطت تركيا كذلك عودة مؤسسات النظام السوري بديلا عن قوات سوريا الديمقراطية، وفق مهلة زمنية وبالعدم شن عملية عسكرية تركية لا تبقي ولا تذر. ومعلوم أن عناصر حزب العمال الكردستاني المعارض الذي تصنفه أنقرة منظمة إرهابية، قد اتخذ مقارا له في شمال العراق وشمال سوريا. وظلت تركيا لسنوات تحذر من نشاط الحزب انطلاقا من الأراضي العراقية والسورية، واتهمته تركيا قبل نحو أسبوعين بتنفيذ عملية تفجير شارع الاستقلال في إسطنبول والذي أدى لمقتل 6 واصابة 18 تركيا.
وبغض النظر عن أحقية تركيا في مسعاها فضلا عن تورط قوى عظمى في المستنقع السوري؛ فإن السبب المحوري فيما يجري هناك هو النظام السوري نفسه بضعفه وجرائمه ورفض الشعب له ومن ثمّ غياب الدولة الكامل عن معظم التراب السوري. اليوم تبدو سوريا مسرحا ملتهبا لتموضعات أكبر قوتين عالميتين، الولايات المتحدة وروسيا، وكذلك أكبر قوتين إقليميتين، تركيا وإيران. ومثلما منحت واشنطن نفسها الحق في وصف من تشاء بالإرهابيين لم تتردد أنقرة في وصف قوات سوريا الديمقراطية بالارهابيين فغدت واشنطن في نظر أنقرة داعمة للإرهاب ولذلك هددت تركيا بعملية عسكرية في الشمال السوري بهدف واحد وصريح وهو عدم السماح بإقامة أي كيان إرهابي على طول حدودها الجنوبية الممتدة من إيران إلى البحر الأبيض المتوسط حسب توصيف تركيا.
يكفي المرء التأمل بحسرة في تفاعلات الأزمة السورية وسرعان ما يصل إلى حقيقة مأساة الوضع العربي، الذي لم يعد مأزوما بعجز المنظومة العربية عن القيام بأي فعل إيجابي فحسب، بل بغياب تام عن المسرح إقليميا قبل أن يكون دوليا. فالجامعة العربية أصبحت هيكلا بلا معنى أو مضمون ولا تُحِسّ منها فعلا أَو تكاد تسمع لها ركزًا، وجاءت نتائج قمة الجزائر في الأول من نوفمبر الماضي، لتكرّس حالة العجز العربي منذ نشأتها قبل نحو سبعين عاما.
إن مجريات الأحداث في المنطقة تشير إلى خريطة جديدة دخلت مرحلة المخاض، لكن لا يبدو من أهل المنطقة من العرب إلا دور الصامت المتفرج. وبالغياب العربي بدت تركيا بثقلها السياسي والاقتصادي هي الدولة الأكثر تأهيلا لتحقيق توازن استراتيجي يمنع انهيارا كاملا لمنظومة المنطقة الجيوسياسية ويقتضي ذلك تحالفا أو على أقل تقدير، تعاونا من جانب دول المنطقة. لقد أظهرت تركيا مواقف قوية تجاه نظام الأسد وجرائمه في سوريا منذ انطلاق الثورة، واحتضنت أنقرة السوريين الفارين من رصاص وبراميل وصواريخ الأسد ووفقا لأرقام الأمم المتحدة، هناك 10 ملايين لاجئ سوري منهم 4 ملايين تحتضنهم تركيا،ومنحت أنقرة المواطن السوري حق البقاء والدخول إلى تركيا حتى بدون وثائق رسمية أو منتهية الصلاحية.
إن الغياب أو الهروب العربي من المسرح السوري لم يفرز تموضع الكبار فحسب، بل تموضع أيضا اللاعبين الصغار فزاد الطين بلة. وغدا حال المواطنين السوريين كحال الحشائش التي تقضي عليها الأفيال وهي تتقاتل دون أن تلقي لها بالا. وهكذا تثاقل الزعماء العرب إلى الأرض ورضوا بالتبعية والانقياد للمخططات الأمريكية والروسية وغدا الذهاب إلى القمم العربية اكراها، وواجبا ثقيلا لا يزيد عن كونه مجاملة للدولة المستضيفة. بل تمتد المجاملة حتى إلى مخالفة ميثاق الجامعة الذي يدعو لإعطاء الملفات الخلافية أولوية لحلها.
وبينما يذوق السوريون الأمرين من أطراف الصراع المختلفة؛ ظلت هذه الأطراف تتبادل الاتهامات وتحميل بعضها البعض وزر ما يلاقيه الشعب السوري جراء هذا الصراع المحتدم على أرضهم. والتحركات الأمريكية على الأرض وما يصاحبها من تصريحات لذر الرماد على العيون من جانب مسؤولي الإدارة الأمريكية تشير إلى ممارسة واشنطن اللعب على جميع الحبال. إذ أنها من ناحية تُظهر دعمها لحق تركيا في الحفاظ على أمنها القومي، وتؤكد تفهمها لما تبديه من مخاوف نتيجة تعرضها لعمليات إرهابية في الداخل من جانب تنظيمات لم تسمها باسمها، تعمل على إيجاد واقع جديد في المنطقة الحدودية السورية المتاخمة للأراضي التركية، ومن ناحية أخرى تعمل من تحت الطاولة على دعم (وحدات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني) بمنحهم منطقة حكم ذاتي في الشمال السوري، على غرار كردستان في شمال العراق، بزعم مساندتهم لها ووقوفهم إلى جانبها في حربها على تنظيم داعش.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى