المقالات

د.ياسر محجوب يكتب:أزمة الخرطوم.. وضوح روسي وغموض أمريكي

 

الخرطوم  تسامح نيوز

 

فيما ظلت القوتان العظميان في العالم تتقاتلان بشراسة على مسرح الأرض الأوكرانية، ظلتا في أماكن أخرى في حالة عدم يقين مما يجري هنا وهناك من بقاع العالم الملتهبة. ففي الأزمة السودانية المستعرة اليوم اتسم موقف الولايات المتحدة الأمريكية بالضبابية من طرفي الصراع هناك، وانتهت جهودها للوساطة بالفشل الكبير الذي لا يتناسب مع قوة ووزن وفعالية دولة مثل الولايات المتحدة في العالم. بينما بدت روسيا أكثر وضوحا في مواقفها رغم دخولها متأخرة جدا على خط الأزمة. فقد اعتبر وزير الخارجية الروسي أن الأزمة السودانية شأن داخلي وأن حلها بيد السودانيين، وزاد أن موسكو تقف مع الشعب السوداني ومؤسساته الشرعية القائمة. فالجيش السوداني الذي يخوض حربا ضد مليشيا الدعم السريع المتمردة عليه يعتبر من أهم المؤسسات الشرعية في البلاد، فهذا أوضح وأقوى موقف خارجي لصالح الجيش السوداني في ظل الصراع الحالي. مع الإشارة إلى أن السفارة الروسية لا تزال في الخرطوم، بينما السفارة الأمريكية مغلقة وغادرت بعثتها البلاد ولم تُبق أي دبلوماسيين حتى في مدينة بورتسودان وهي مدينة كبيرة بها مطار دولي يعمل وقد اتخذتها العديد من البعثات الدبلوماسية مقرا مؤقتا لها.
ولقد ظل الجيش السوداني غاضبا من كل الوساطات الأخيرة وكلها بقيت تحت النفود والتأثير الأمريكي، وهي بالإضافة إلى منبر جدة، ومبادرتي دول الإيغاد، والاتحاد الإفريقي. فتلكم المبادرات رفضتها الخرطوم لأنها لم تعلن بوضوح إدانة التمرد على الجيش ومحاولته الاستيلاء على السلطة بالقوة العسكرية الدموية باستخدام قوات مرتزقة متعددة الجنسيات؛ فهي فشلت في تشخيص وتوصيف الأزمة إبداءً ومن ثم كان فشل تلك المبادرات قائما على ذلك المحور الأساسي.
على سبيل المثال فإن الاتحاد الأفريقي كان قد جمّد عضوية السودان منذ أكتوبر 2021، بعد إقالة الجيش لحكومة عبد الله حمدوك باعتبار ذلك انقلابا عسكريا بينما لم يقل شيئا عن تمرد مليشيا الدعم السريع الأخير على الجيش. كما أن رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي كان قد اعتبر حرب إقليم تيغراي الإثيوبي في عام 2021 مشكلة تمرد بين حكومة فيدرالية و»جبهة تحرير شعب تيغراي»، تحل داخل الدولة، بالمقابل اعتبر تمرد قوات الدعم السريع نزاعا بين طرفين، ولم يتدخل الاتحاد الأفريقي في حرب تيغراي، رغم وجود مقر المفوضية في العاصمة الإثيوبية.
وبادرت واشنطن رفقة الرياض منذ تفجر الصراع منتصف أبريل الماضي بالوساطة، ونجح منبر جدة في حمل الطرفين على الاتفاق بشأن أكثر من عشر هدن للأغراض الإنسانية وحماية المدنيين. ولم تدن وساطة جدة مليشيا الدعم السريع لخرقها اتفاقات وقف اطلاق النار وعدم الالتزام الكامل بمقتضيات الهدن وعدم الانصياع لمطالبات خروج قواتها من المستشفيات والمرافق الصحية. واعترفت مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأفريقية للجنة فرعية للشؤون الخارجية بمجلس النواب الأمريكي بأن اتفاقات وقف إطلاق النار لم تكن فعالة بشكل كامل لكن دون الاشارة إلى الطرف المتسبب في ذلك. غير أن الولايات المتحدة أدانت أخيرا مليشيا الدعم السريع تحت ضغط الفظائع البشعة التي ارتكبتها بدم بارد في ولاية غرب دارفور، من بينها عنف جنسي وعمليات قتل على أساس عرقي. وهذه جرائم ليست جديدة على هذه المليشيا فقد ظلت ترتكب جرائم مماثلة وما زالت في قلب الخرطوم منذ تفجر الصراع لكن واشنطن كانت تغمض عينها ولا تسمي الأشياء بأسمائها ولذا كان من الطبيعي أن تفشل في وساطتها وتخسر سمعتها باعتبارها قوة دولية مؤثرة.
بيد أنه ومع الوضوح الروسي، لا يبدو أن موسكو قادرة على بذل الوقت اللازم لقيادة مبادرة تعمل على وقف جرائم وتعديات مليشيا الدعم السريع لكونها غارقة تماما في حربها في أوكرانيا. لكن الموقف الروسي قد رفع الضغط الكبير على الجيش السوداني وأنبأ بفشل أي تحركات سياسية في مجلس الأمن الدولي لاستصدار قرارات تدين الجيش السوداني أو تضع البلاد تحت طائلة البند السابع والتدخل العسكري الدولي. وأصبح الطريق ممهدا للجيش السوداني للمضي قدما في خطته لحسم التمرد عسكريا ثم السير إلى عملية سياسية تخرج البلاد من وهدتها وتعيد الأمن والاستقرار لربوعها المنهكة. كما أن مصير البعثة الأممية برئاسة فولكر بيرتس هو مغادرة البلاد بعد تحفظات الخرطوم على أداء رئيسها والمشجع لتمرد مليشيا الدعم السريع رفقة قوى سياسية سودانية معلوم، وكونه البعثة كذلك جاءت بطلب من رئيس الوزراء المستقيل أو المقال عبد الله حمدوك دون علم مجلس السيادة برئاسة قائد الجيش عبد الفتاح البرهان تحت البند السادس. فإن كان مصير بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في مالي تحت البند السابع الخروج من البلاد بعد طلب مالي إنهاء مهمتها، فإنه من باب أولى أن تغادر بعثة فولكر غير مأسوف عليها. وجاء التصويت بالاجماع في مجلس الأمن على انهاء مهمة بعثة الأمم المتحدة في مالي بعد أسبوعين من وصف وزير الخارجية المالي مهمتها بأنها «فاشلة»، وطلب أمام مجلس الأمن الدولي إنهاءها فورا.
على الأمم المتحدة ومجلس الأمن أن يركزا جهودهما على محاربة ظاهرة المليشيات العسكرية حول العالم ابتداءً من فاغنر الروسية مرورا بقوات خليفة حفتر في ليبيا وانتهاءً بمليشيا الدعم السريع السودانية، عوضا عن اضعاف المؤسسات الشرعية. وقد ثبت اضرار هذه المليشيات بأمن واستقرار كثير من الدول واستخدامها لأغراض سياسية من أطراف عديدة في مهمات عسكرية مدفوعة الثمن. واليوم موسكو وقد احبطت مؤخرا تمردا من مليشيا فاغنر فقد شربت من ذات الكأس التي تشرب منه الخرطوم اليوم وهو ما تسبب في الأزمة الحالية. ولطالما اعتبرت واشنطن وجود مجموعة فاغنر في القارة الأفريقية يمثل قوة مزعزعة للاستقرار لأي دولة تسمح بنشر موارد المجموعة على الأراضي الخاضعة لسيادتها، فعليها كذلك أن تكيل بمكيال واحد وتعتبر مليشيا الدعم السريع بذات الاعتبار.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى