برلمان القراء

سراح النعيم يكتب : لا تسأل سكان الخرطوم لماذا لم تخرجوا منها؟

 

الخرطوم   تسامح نيوز

 

أحزن جداً عندما يطرح أحدهم سؤالاً لماذا لم يخرج سكان الخرطوم منها؟ الإجابة تكمن في تجربتي مع الحرب بين الجيش السوداني، والدعم السريع، فالجميع يمر بأوضاع اقتصادية وإنسانية ضاغطة جداً، لا يمكنني وصفها وصفاً دقيقاً.

 

فقد عشت، وعاش السكان ظروفاً بالغة التعقيد، ظروفاً لا يمكن أن تخطر على البال نهائياً، فلا تستطيع الكلمات تقريب صورتها بدقة، فالواقع الذي ركنا له، واقعاً مؤلماً جداً، ورغماً عن ذلك يسأل البعض لماذا لم يخرج سكان الخرطوم منها؟ إجابتي تكمن في أن الجميع استيقظ من النوم على دق طبول الحرب في العشرة الأواخر من شهر رمضان المعظم، وعليه وجد السكان أنفسهم وسط دوي الانفجارات، وقصف الطيران الحربي، والذي تقابله المليشيات بمضاداته.

 

هكذا كنا نفطر، نتسحر وننوم، عموماً وجدنا أنفسنا محاصرين في حدود شوارع منازلنا، ولا نستطيع أن نتجاوزها، وبالتالي فإن حركتنا محدودة جداً، ومن يتجرأ على تجاوزها، فإن حياته مهددة بالخطر، لذلك أجبر الجميع على راهن مخيف ومرعب، مما جعل البعض يلجأ إلى إستثمار فترة توقف إطلاق النيران لشراء ما يحتاجه من مواد غذائية وتموينة، وإذا لم يكن بحوزته (مال)، فإنه يضطر للإقتراض من (البقالة) على أمل إنتهاء الحرب، إلا أن (البرهان) يطيل في أمدها بالمبادرة الامريكية- السعودية، الإتجاه إلى السياسة، مما جعل أصحاب البقالات يغلقونها حفاظاً على الأروح، فالمليشيات، عصابات النيقرز و(9- طويلة) نهبت عدداً من المحال التجارية، هكذا وجد سكان الخرطوم أنفسهم في أوضاع اقتصادية وإنسانية بالغة التعقيد، ومع هذا وذاك ليس لديهم مصدر دخل بعد أن انفقوا ما يملكونه، علماً بأنه لا يكفي للصمود أسبوعاً، ناهيك عن إستمرارها أكثر من شهر، ومازالت لا تبارح مكانها قيد انملة.

 

فهل سيسأل بعد ذلك أحد لماذا لم يخرج سكان الخرطوم منها، ألم يكن الأجدر أن يكون السؤال كيف قضي إنسان الخرطوم أيام الحرب السابقة واللاحقة، وكيف صمد، ومازال يصمد في ظل ظروف اقتصادية وإنسانية قاهرة جداً، ومن أين له بالوجبات في ظل بلاد تشهد (شحاً) في المواد الغذائية والتموينية، مع التأكيد بأن مخزونه نفد، والبنوك نهبت، وتطبيق (بنكك) توقف عن الخدمة، مع هذا وذاك أصبح الجميع (عاطلاً) عن العمل، وذلك منذ اليوم الأول للحرب.

 

ورغماً عن ذلك تأقلم السكان على ذلك الوضع المذري جداً، وهو وضعاً لم يألفوه قبلاً، وبالمقابل من يجد (مال)، فإنه يحرص على انفاقه في المواد الغذائية والتموينية حتى يستطيع التقلب على الواقع المفروض عليه، لذا لم يفكر إطلاقاً في مغادرة الخرطوم بالرغم من أنها امتلأت بتجار الأزمات، فالحرب افرزت واقعاً مغايراً اضطر المواطن إلى انفاق كل ما لديه من مال، فالإنسان يستقل أخيه دون مرعاة لأوضاعه الاقتصادية الطاحنة جداً، فالأسعار وصلت إلى (400%)، مما نتج عن ذلك استنزاف المخزون، فضلاً عن أن الجميع (عاطل) عن العمل طوال الفترة الماضية، ومازال يعاني الأمرين، وإذا وجد (عملاً)، فإن حياته مهددة بالخطر، فالحرب تسببت في قتل، تشريد، وفقدان عدد كبير من السكان في ظروف يكتنفها الكثير من الغموض، كما يتعرض المواطن إلى نهب ممتلكاته.

 

لذا بات غير قادراً على الإيفاء بالتزاماته المنزلية، ناهيك عن شراء تذكرة أو تذاكر سفر لعدد من أفراد اسرته، وإذا افترضنا أنه إستطاع دفع قيمة التذكرة، أو التذاكر، فمن أين له بحق إيجار المنزل أو الشقة في أي ولاية من ولايات السودان، والتى ارتفعت فيها الإيجارات بما يفوق كل التصورات، بالإضافة إلى أنه تنتظره فواتير مثلاً المصاريف اليومية، الكهرباء، المياه وغيرها، فهو مطالب بتمزيقها جميعاً بدون مصدر دخل، لذا لا تسأل من اليوم وصاعداً لماذا لم يخرج سكان الخرطوم منها؟؟.

 

إن إنسان السودان صبر على الحرب صبر سيدنا أيوب عليه السلام، ومازال صابراً، فليس أمامه حلاً سوي الصبر على أمل أن يحسم الجيش السوداني الحرب لصالحه، هكذا ينتظر ويراقب ما يجري، وسيجري إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا، وعلى خلفية ذلك ظل ملتزماً بالبقاء في منزله، فلا حيلة له غير الإنتظار، فما حدث ويحدث خارج عن نطاق سيطرته.

 

ظل المواطن السوداني صابراً على انتهاكات، وجرائم مليشيات الدعم السريع، ورغماً عن ذلك يبحث عن بصيص أمل للعيش في أمن داخل منزله على الأقل، ناهيك عن خارجه، فهذا الإحساس أشد قسوة وإيلاما، لذلك عندما يخرج من منزله، فإنه يخرج مجبراً لقضاء بعضاً من حوائجه، والالتقاء بالأصدقاء، عسي ولعل يخففوا عنه إحساساً بالخوف، والذي هو جزء أصيل من إنسانيتنا، لذلك يركن السكان لهذا الإحساس منذ انطلاقة الشرارة الأولي للحرب.

 

كلما تذكرت إنني قضيت (40) يوماً وسط قصف الطيران الحربي، ومضاداته، ودوي الانفجارات، وأصوات المدفعية، الرباعي، الثنائي وغيرها من الأسلحة الخفيفة والثقيلة، أسأل نفسي كيف قضيت تلك الأيام دون أن أعرض نفسي على طبيب، فما شهدته من مآسي مازال عالق في المخيلة.

 

لذلك إلا ألوم أحداً على تفقد احوالي، فالكل يعيش أوضاعاً اقتصادية وإنسانية متأزمة جداً، فالحرب جعلت الجميع يعيش تجربة مريرة جداً، لم يكن يتخيل أنه سيعيشها في يوم من الأيام، ولم يكن يملك المال الكافي لشراء وجبة واحدة، ناهيك عن ثلاثة وجبات، وفي كثير من الأحيان يلجأ البعض إلى أكل الخبز (ناشفاً)، أهل بعد ذلك يسأل هذا أو ذاك لماذا لم يخرج سكان الخرطوم منها؟؟؟.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى