
– مدخل أول – اقتباس
“..لا تكن يا عبدالله كالسائمة التي وجدت مرعى خصبًا فأصبح همها في السّمن، وداؤها لو تعلم في السّمن ..”
– مدخل ثاني – سؤال محوري
إلى وزير الثروة الحيوانية الموقر : كم تُقدّر خسائر الثروة الحيوانية منذ إندلاع الحرب إلى يومنا هذا
خمسة أيام، ولم تعد غنماية الوالد إلى البيت. في اليوم السادس جاءوا صبية يهرولون نحو فاطنة بت موسى -رحمة الله عليها- والتي لم تترك أحدًا في القرية إلا وسألته : دحين ما شفت ليك مِعزة جاي ولا جاي ؟ رغم انها أكثر المشددين على ربط الأغنام بالبيت، ولكن أمرًا ما نفذ من بين يديها تلك السّاعة وخرجت الغنماية إلى مجهول .. وصلوا عندها أنفاسهم تتصاعد، وكل واحد منهم يستبق الآخر في نقل الأخبار :
– عَنْزِك هديك ليها لقيناها (ميتة) فوق التُرعة!
والعقيدة الراسخة في مجتمعنا القروي البسيط؛ أن المرء إذا فقد شيئًا عزيزًا عليه، أو أصابه مكروه قال : (العين حق، بكون سحروها) .. بينما بت موسى لم تقل شيئًا سوى : “الله يعوضني!” فالماعز، كانت حديث الناس، ومحل احترام وتقدير الجميع؛ لرعاية بت موسى لها حقّ رعاية. فكانت دائمًا ما تعطف عليها، خاصة الأيام العاصفة بالبرد والمطر تكون معها في مكان واحد.
أمّا والدي -أنعم الله عليه بالعافية- فقد كان أشدّ حزنًا وإيلامًا على نهاية الغنماية، ذهب مع الصبية بجسد مثقل بالهموم والتعاسة مثل أشجار الصبار، ووقف عليها (نافقة) أسفل الترعة والطيور من فوقها تحوم. وليته عبّر عن ذلك بـ (سحروها) بينما استخدم تساؤلات أثارت الجدل ضمن مطلع مرثيته :
شين وداكْ علي فريقًا أهلو مُساخ ؟
وشين وداكِ تكابسي محلة الأوساخ ؟؟
والطبيعي في الإنسان يا سادة، أنه عندما يصاب بفاجعة -أيًا كانت على قلبه- يغضب، وتنفجر دواخله من هول المصيبة، وسرعان ما يسكت عنه الغضب، ويربط الله على قلبه ويثبته؛ تعتريه السكينة ويحتسب الأشياء لله. كما ذكر ذلك ضمن أحد أبياته :
في سور وداخل سور .. بوابتها مسدودة
ما رضيناها ليك .. لكن تمّت المعدودة
إلى يومنا هذا .. وفي داخله مَعزّة خاصة للغنماية، يعدد محاسنها ويؤثر على فقدها ووقع نفوقها على قلب بت موسى : ” أمي الله يرحمها لحدي ما ماتت كانت بتتذكر فيها. تقول لي : دي غنماية تاني مافي زيها عوضنا فيها الله بس! ..” ويضيف : ياخ دي لمن نحلب لبنها تحلف تقول مَسخّن جاهز !!
وأنا – هداني الله – عندما احتار من وصفه الدقيق لمحاسنها، واتذكّر مذاق لبن (المراعي) الذي شربته مرّة واحدة في حياتي، تنهشني كلاب السخرية الضالة واقول ليهو :
– إنت يا أبوي بتشكِّر فيها كدا، كنتو بتأكلوها (الباسطة) ؟!
“باسطة شنو ياخ. أول حاجة ما قاعدين نفكها مطلوقة ساي كُلو كُلو .. وما حصل يوم خَشّت ليها علي زول جاء شاكي لينا منها .. من حيطتها ما قاعدة تطلع. عَلُوقها ما حصل انقطع، وعلي العليها تبارك الله بتحلب صباح ومساء، معشيانا في أمان الله ..”
وأثناء ما هو يتحدث، فإذا بغنماية هزيلة، تجرُّ رأسها جر، وتهرش كرشها بعرض الحائط تدخل في الحوار بدون أي مقدمات : (مييييغ!) .. فيشير إليها والدي متسائلاً : هسي بالله دي غنماية، وديك غنماية ؟!!
ويهمهم بصوت يكاد يكون مسمعوع وملامح الحُزن تسري مجرى الدّمع، تضيق الأعين، وتظهر على الوجه علامات تشبه ملامح زمننا هذا. تفتر شفتاه ويتهيأ للحديث ولا يتفوه بكلمة. فلا شكّ أن “الغنماية” قد خطرت على باله وأخذ يرثيها ..
شـــين وداك علـــي فريقـــن أهلو مــــساخ..؟!
وشـــين وداك تكباســـي محلة الأوساخ..؟!
الليلة الصــــقور عملت عَمِت وصـــــراخ
عزمـن بالكـــــــــروت وجابلـــــــهن طبــــــاخ
عنزي مي مطلوقة، ولا غابه يوم لعلوقها
ومي عِنيزة صـــُبــــح: كريشـــــتا مطـــفوقة
في سور وداخل سور وبوابتها مسدودة
ما رضـــيناها ليك لكـــن تمّــــــت المـــعدودة
مي لهـــــــلاها وحـــــــــــــــــــــــــــارسه دوام البيــــــــت
ومي كاباسه في التكله بتكوس لي (الشيط)
دي عــــنزي كِريت .. وأنا زيها ماســــــــعيت
لو ما علّــقت .. بتعــــــشي نـــــــــــــاس البيــــــــت!
_______