
ضياء الدين بلال يكتب: ألف جنيه فقط.. لا غير!
لا أحد من الفاعلين أو المتابعين للشأن العام يجهل من هو الأستاذ المحامي الضليع عمر عبد العاطي!
شغل الرجل منصب النائب العام في واحدة من أصعب الفترات، إبان حكومة الانتفاضة (1985-1986) برئاسة الدكتور الجزولي دفع الله. آنذاك، أغضب عبد العاطي الشيوعيين ولم ترضَ عنه الجبهة الإسلامية.
حدثني ذات مرة، أثناء زيارتي له بمكتبه في الخرطوم ٢، أن الشيوعيين كانوا غاضبين عليه لعدم إلغائه قوانين سبتمبر الإسلامية عقب سقوط نظام مايو. وخرجت مظاهراتهم تهتف: (واطي واطي عبد العاطي)!

لكن الأستاذ عمر لم يغضب، فقد كان يدرك أن هذه ضريبة العمل العام.
أما المفاجأة الطريفة، فكانت غضب والده الشديد، إذ وجد اسمه بحكم القافية موضعًا للشتيمة .
وفي غضبته تلك، سافر الشيخ الجليل من عطبرة إلى الخرطوم وقال لمعارفه: “الشيوعيين المجانين ديل ما ينبذوا عمر، أنا ذنبي شنو!”
للأستاذ عمر عبد العاطي قصة مثيرة وسابقة قانونية فريدة، تستحق أن يطّلع عليها القراء، لما تحمله من عبر وما تفيض به من طرافة قادرة على انتزاع الابتسامة من أشد الوجوه صرامة.
تبدأ القصة عندما رفع المحامي المخضرم دعوى ضد شرطة مرور ولاية الخرطوم، وصلت إلى أعلى درجات التقاضي، لاسترداد مبلغ ألف جنيه فقط!
المفارقة ليست في ضآلة المبلغ مقارنةً بثروة أحد أعلام المحاماة في السودان (عينّا باردة، والله يزيد ويبارك!). بل في أن عبد العاطي، الذي تنوء أرفف مكتبه بمئات القضايا الثقيلة، أنفق من وقته وماله أكثر من 50 ألف جنيه لاسترداد ألف جنيه، كانت قد أُخذت من ابنه بسبب تسوية مخالفة مرورية!
ملخص القصة:
أوقفت شرطة المرور ابن الأستاذ عمر عبد العاطي—وهو شاب خريج قانون—أثناء جلوسه داخل سيارته أمام أحد المتاجر، وطلبوا منه دفع ألف جنيه بحجة أن السيارة مظلَّلة.
رفض الشاب دفع مبلغ التسوية، فتم حجز السيارة في قسم الشرطة.
وحين فشلت محاولات إثبات أن السيارة كانت مظللة بالفعل، اضطر عبد العاطي إلى دفع المبلغ واستلم إيصالاً بمخالفة المادة 46.
لكن القصة لم تنتهِ هنا…
تقدّم المحامي المخضرم بإنذار قانوني إلى وزارة العدل، وبعد مكاتبات واتصالات، جاءه الرد من رئاسة الشرطة: “الجأ إلى القضاء إن شئت!”
وهكذا، لم يتردد عبد العاطي لحظة، فتوجه إلى القضاء. جلسة بعد أخرى، ومرافعة تلو مرافعة، صدر الحكم لصالحه، وأُعيد إليه مبلغ المخالفة، مضافًا إليه رسوم المحكمة وأتعاب المحاماة.
وعندما استأنفت وزارة العدل الحكم، تم شطب طلب الاستئناف إجازياً!
الأستاذ عمر عبد العاطي قرر توثيق تفاصيل القضية في كتيب صغير، ليكون مرجعًا لطلاب الحقوق وعامة المواطنين، وكتب في مقدمته:
“لم تكن حماقة مني، بل كان موقفًا مبدئيًا. أردت أن أحرض المواطنين على عدم الاستكانة للأوامر الظالمة، وأن يصرّوا على أخذ حقوقهم كاملة، وألّا يطيعوا أي أمر يخالف القانون.”
دروس وعبر:
• هذه القصة، رغم بساطتها، تؤكد أهمية المطالبة بالحقوق وعدم التساهل فيها، مهما كانت التكلفة.
• إخضاع أجهزة الدولة للقانون، خاصة تلك المعنية بتطبيقه، مؤشر إيجابي على سلامة المنظومة العدلية.
• “ليس من العدل أن تطلب من الآخرين ما لست أنت مستعدًا لفعله.” إلينور روزفلت
أخيرًا:
قبل الحديث عن أي “وثبة سياسية”، لا بد من “وثبة عدلية”، تُصان فيها كل الأوعية العدلية في البلاد، من حيث القوانين والتطبيق. فالناس سواسية: لا ضعيف يُضام، ولا شريف ينجو من العقاب، إن كان من مخزوم أو بني كلاب.
التحية لمثابرة عبد العاطي، لرحابة صدر شرطة المرور، ولنزاهة القضاء السوداني.
من أرشيف الكاتب.