المقالات

عمرو منير دهب يكتب: عواقب التصابي

 

nasdahab@gmail.com

يقاوم ريتشارد كل علامات الكبر ببسالة، الأدق أنه يقاوم الاعتراف بظهور تلك العلامات وليس كما يتوهّم يفلح في تأخيرها لأنه يعتنق نمط حياة صحيّاً ومثاليّاً. وبصرف النظر عن صعوبة (استحالة؟) الإجماع على تعريف “المثالي” من أنماط الحياة فإن المهندس الأسكتلندي كان بالفعل يمارس نمط حياة صحيّاً يتجاوز ما ينصح به الأطباء مرضاهم (لإنقاص الوزن وتخفيض ضغط الدم) إلى ما يشاهده الناس في التلفزيون لدى أبطال الإعلانات التجارية ذات الصلة. مع ذلك لم يعد أحد يجادل في أن ريتشارد قد أصبح عجوزاً بالفعل سوى ريتشارد نفسه.

كانت طريقة الرجل في إنكار الكِبَر وعلاماتِه فريدة، فشكواه من آلام الركبة يجهر بها إلى رفاقه في العمل، ويخص المقرّبين منهم باعترافه بأن ما يخشاه من مراجعة طبيب العظام هو يقينه من أن الطبيب سينصحه بالكف عن الركض وعن المشاركة في السباقات العالمية للدراجات الهوائية، وهو ما يخال الحياة مستحيلة بدونه.

عندما يخرج ريتشارد إلى الرياضة عقب العمل عصراً تتزايد آلامه المعنوية – قبل البدنية – وهو يرى شاباً في العشرين من عمره ممن يشاركونه التمارين اليومية يعدو كالصاروخ دون أن يظهر عليه أيٌّ من علامات الإجهاد، ولا يستجيب الأسكتلندي المكافح لنصائح رفاق العمل عندما يشيرون عليه بمشاركة رمزية اكتفاءً بدور المدرِّب.

أمّا لماذا لا يركض ريتشارد مع مجموعة من الرياضيين في عمره فلسبب بسيط هو أن مَن هم في مثل سنِّه أكثر تعقُّلاً من أن يُهلكوا ما تبقــَّى من عافيتهم كما يفعل من يُقدم على الانتحار.

والأخيرة واحدة من علامات الكبر المؤلمة: أن تبحث عن أصدقائك القدامى للقيام بعمل ما (ليس المشاركة في سباق عالمي للدراجات الهوائية بالضرورة) فتجد أغلبهم طريح الفراش في البيت أو المستشفى، ومن لا يزال يقف على قدميه يفضِّل أن يحافظ عليهما للمزيد من الوقوف لا الركض.

الأشدّ إيلاماً من علامات الكبر ألّا تيأس فتقرِّر المواصلة في اللعب برغم غياب رفاق العمر، ولكن ليس وحدك وإنما في وجود حفنة من الشباب يركض أحدهم بسرعة صاروخ ورشاقة غزال. ولأن ريتشارد ممن يستعذب تعذيب نفسه عندما يتعلّق الأمر بالرياضة فإنه يترك سائر الشباب الذين يشاركونه الرياضة ويناصب الغيظَ والحسدَ أصغرَهم سنّاً وأسرعهم عدواً.

ليس بعيداً عن ريتشارد، ظلَّ كهل عربي – أقلّ اهتماماً بالرياضة والعلاقات الاجتماعية أثناء ممارستها – يمشي وحده في شوارع الحيّ الهادئ حيث يقيم، وعندما تبلغ به الحميّة الرياضية أوجها يهرول في المائتي متر الأخيرة قبل الوصول إلى البيت وهو في ذروة الإجهاد ليرتمي على أقرب أريكة تحتضنه ولا يدري ماذا يفعل بعدها بقية المساء.

صنيع ريتشارد والكهل العربي كلاهما – وإن تباينا مزاجاً وحِدّة – مما يدخل في باب التصابي مع اختلاف العواقب بحسب اختلاف الجرأة على التهوّر لدى الاثنين واختلاف شجاعة الرجوع عن الخطأ بعد إدراكه أو قبيل الإرغام على إدراكه بتأثير قوى الجسد المنهارة. ولأن ريتشارد رياضي محترف فإنه كان الأكثر تهوّراً في مواصلة التمارين العنيفة والأدنى شجاعة في الإقرار بأخطاء يظن الحياة مستحيلة بدون الوقوع فيها إذا كان لا مناص من حمله على الإقرار بأن ممارسة الرياضة بشكل احترافي لمن أوشك أن يدرك الستين ليست سوى خطأ صريح.

ولأن التصابي أشكال وألوان فليس غريباً أن تكون عواقبه أشكالاً وألواناً كذلك، وللتبسيط نقتصر على اثنين فقط من أشكال التصابي وألوانه وما يقابلهما من العواقب، وإذا كنا قد عرضنا توّاً لبعض صور التصابي المادية فإن الصنف الثاني هو التصابي المعنوي إشارةً إلى إحساس الكهل أو العجوز بأنه لا يزال شاباً واستغراقِه في ذلك الإحساس بما ينعكس على مظهره وانفعالاته ولكن ليس إلى حدّ الإقدام على عمل جسدي متهوِّر كمحاولة الركض في سرعة وارتياح شاب في العشرين.

غير أنه من الخطأ أن يُفهَم أن عواقب التصابي المعنوي أقلّ خطراً من نظيراتها الخاصة بالتصابي المادي، فالأزمة المعنوية للعجوز المتصابي قد تكون أشدّ فتكاً من أنفاس متقطِّعة عقب الهرولة لبضع مئات من الأمتار أو مفاصل مهترئة من تكرار محاولات فاشلة لمجاراة صاروخ في العشرين من العمر.

وإذا كان “العجوز المحافظ” لقباً يُطلَق على من لا تبدو علامات الكبر على هيئته فإن من الخطل أن تستبدّ نشوة اللقب “محافظ” بعجوز فتحمله على اجتراح أفاعيل الشباب، فوظائف أعضاء الجسد – كما رأينا في مقام قريب – لا تكذِّب عمر صاحبها مهما بدا مظهرُه أبهى رونقاً وأقلّ عمراً. وعليه فإن من الحكمة للعجوز المحافظ أن يدرك أن أفضل حظوظه في التصابي وأدعاها إلى السلامة أن يبدو للناس أصغر سنّاً وحسب، دون أن يذهب بعيداً وراء ذلك إنْ فعلاً أو إحساساً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى