المقالات

عمرو منير دهب يكتب.. ذكرياتك حية على الهواء

ذكرياتك حية على الهواء

 

عمرو منير دهب
nasdahab@gmail.com

عندما زارنا حسين قبل سنوات طويلة في مرابع الدراسة الجامعية، وكان قد سبقنا إلى العمل، عاد بحنين لا يُـوصف إلى أيام الدراسة الجامعية ولم يكن معروفاً عنه من قبل ذلك النمط من السلوك العاطفي المشبوب. ظل حسين يعيد التجوّل في المكان الأثير ويهنأ بالقدرة الرمزية على استعادة نشوة التجوّل في الزمان الأكثر قرباً إلى قلبه حتى ذلك الحين.

كان حسين مدفوعاً – فيما بدا واضحاً حينها – إلى التلذذ بالوقوع في حبائل الذكريات الجميلة بدواعٍ تتعلّق بالحياة العملية الأقل بهجةً قياساً إلى أيام الدراسة، إذا استثنينا من الأخيرة رهق المذاكرة وعذاب الامتحانات، واستثناءُ منغـِّـصٍ عابرٍ مهما يكن قاسياً أمرٌ ممكن ومشروع في قوانين الذكريات وأعرافها.

اللافت في سيرة حسين أنني سألته منذ أيام قليلة خلَت عمّا إذا كان يراوده بعض الحنين إلى أيام الدراسة الجامعية – وكان يحدّثني حينها عن الأماكن الأنسب للاستثمار العقاري حول العالم – فصمت برهة ثم أجابني: “لا، لا يراودني أي حنين”. لم يكن ما حدا بالرجل إلى أن يصمت برهة أنه كان يفكِّر في المفاضلة بين نعم ولا في معرض الإجابة ولكنه فيما أحسب كان يراجع نفسه قبل أن يلقي إجابة صادمة من ذلك القبيل على صديقه الذي يعرف ولَعَه الهوَسي بالماضي.

ليس في مشاعر حسين أية جناية يمكن أن يحاكــَـم على أساسها في قوانين وأعراف الذكريات، ففي إمكان الأخيرة أن تحاكمك إذا كنت خلواً منها تماماً لكنها عادة لا تفعل إذا أبدلت ذكرى مكانَ أخرى أو اختار قلبك أن يرتاح إلى واحدة على حساب أخرى من الذكريات.

الذكريات طبقات يجثم بعضها فوق بعض بحساب الزمان، لكن تراتبها الزماني لا يمنح أيّاً منها الأفضلية الجمالية والأثــَـرة على ذلك الأساس بالضرورة، فالأثيرة إلى القلب قد تكون ذكرى تقع في طبقة محشورة بين زمانين أو أكثر، وإن كان القانون العام للذكريات يرجّح أن الأكثر إهاجة للمشاعر هو الذكرى الأولى أو الأخيرة، دون أن تشكّل مخالفة ذلك القانون تعدّياً يستوجب مساءلة أو عتاباً للقلب المكتوي على كل حال.

بعض الذكريات ينزوي حتى يُـوهِـم بزواله ثم تهيجه زورة أو نظرة أو كلمة عابرة فيقفز ليطغى على ما كان هائجاً مائجاً فوقه من ذكريات، والأغلب أن تلك الحالة تستمر حتى تنتهي الزورة أو يزول مفعول النظرة أو الكلمة فتعود قاعدة “الذكرى الأولى أو الأخيرة” لتسود.

هل للوطن مرتبة أعلى في طبقات الذكريات؟ الإجابة “نعم” إذا كان الوطن هو مرتع الذكريات الأولى، و”نعم كبيرة” إذا كان الوطن مرتع الذكريات الأولى والأخيرة، أما إذا داخلت القلبَ مرابعُ أخرى للذكريات خارج الوطن فلا شيء يتغير مع قاعدة “الذكرى الأولى أو الأخيرة” بحيث تسيطر في الغالب إحدى الذكرَيَيْن وإن كانت خارج الوطن.

تشبه الذكريات وسيرتــُـها مع القلوب الجراحَ وسيرتـَـها مع الأجساد في أن أثرهما يندمل بمرور الزمان، ولكن آثار الذكريات أعصي على الاندمال وأعظم مكراً في مراوغة بلسم الزمان من حيث قابليتها لأن تهيج من الزورة أو النظرة أو الكلمة آنفات الذكر، بينما جراحات الأجساد لا يهيجها سوي الهتك الحادّ والمباشر للمواضع ذاتها.

عندما لا تهيجك ذكرى بعينها لا يعني ذلك أنك تنسى تفاصيلها الجميلة، بل يعني أن ثمة ما هاج تفاصيلَ جميلة لذكرى أخرى فَعَلا بطبقتها حتى ملأت عينيك وشغلت قلبك كله. ذلك هو الفرق بين الذكرى والتذكُّر، أنت ترى طبقات ذكرياتك بتفاصيلها وبعضُها يعلو فوق بعض لكنك لا تعبأ لأن تنبش بمشاعرك في الطبقات التي تراها وفيما بينها حتى يثِبَ الحافزُ فينبش من تلقاء نفسه في الطبقات وما بينها ويخرج بإحداها صاعداً به إلى حيث يتربع على قلبك ويسدّ على عقلك منافذ التفكير فيما عداه.

أجمل حظوظي مع الذكريات كان – كما أشرت في حديث قريب – حين استبقتُ الزمان فتنبّـأتُ بموقع ذكرى قادمة فائقة الجمال وأنا أعيش أيامها حاضرة. تسنـّى لي حينها أن أتابع ذكرياتي – في ظاهرة فريدة – “حيةً على الهواء” بدلاً من تعقُّبها لاحقاً في أشرطة الفيديو ومجموعات الصور الفوتوغرافية ودموعي ودموع الأصدقاء الحالمين. وإذ أؤكِّد للقارئ والقارئة أن ذلك ليس أمراً اعتيادياً فإنني أتوسل إلى كليهما إذا كانا من عشاق الذكريات أن لا يستخفّا بهاجس قد يطرقهما مذكِّراً بأن ما يعيشانه “الآن” هو موضع ذكريات قادمة جميلة، فتلك أحرى لحظات العمر بالاقتناص.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى