عمرو منير دهب يكتب: صكوك إجازة الكُــتــّــاب

nasdahab@gmail.com
الكُــتــّـاب ذائعو الصيت الذين نقرأ لهم الآن ليسوا الأفضل ولكنهم من تمّت إجازتهم على أنهم كذلك، ما يعني أن آخرين لم يجتازوا الامتحان (لأسباب لا علاقة لها بقدراتهم الفنية، أو لأنهم لم يجلسوا للامتحان أصلاً) جديرون بالمتابعة، هناك في الشوارع الخلفية لضاحية الكتابة بمدينة الإبداع.
ومدينة الإبداع تلك اسم يغري بفيض من التداعيات الأخلاقية الحالمة على غير ما هو حاصل بالضرورة كما سنرى لاحقاً في غير هذا الحديث بإسهاب. فإذا كانت صكوك الغفران أزمة عابرة في تاريخ الأديان فإن صكوك إجازة الكُـتـــّـاب أزمة مقيمة في مدينة الإبداع على امتداد تاريخها بما يجعلها جزءاً أصيلاً من تقاليد العيش والعمل في تلك المدينة.
يحكي الناقد المصري صلاح فضل أن الأديب المصري المعروف توفيق الحكيم حدّثه مرّة عن “ختم الدمغة” الذي يمهر به إبداع الكُـتــاب فيجيزه (أو لعله يمهر بالختم الكاتب ذاته فيجيزه). كان الحكيم يتحدّث عن السلطة التي آلت إليه فجعلت كلمة من قلمه، أو فمه، كفيلة بتحديد مصير كاتب. وعندما مازح الناقد صلاح فضل توفيقَ الحكيم قائلاً بأنه سينتزع منه ذلك الختم يوماً ما لم يردّ الحكيم على المزحة كما يقول صلاح فضل نفسه، والأغلب أن الأخير قد فعلها، فها هو يمهر علاء الأسواني صاحب “عمارة يعقوبيان” بختم الدمغة على الغلاف الأخير للرواية واصفاً إياه بالمبدع الكبير في مرحلة باكرة نسبياً من عمر المبدعين. ذلك اقتباس يتيم على سبيل التمثيل، والأمثلة في السياق ذاته يعجّ بها تاريخ الكتابة العربي منذ جاهليته وحتى يومه هذا من نقاد في سلطة توفيق الحكيم وصلاح فضل وكُــتــّـاب من كل جنس وشاكلة.
أكذوبة اسمها الموضوعية يحاول أن يُروّج لها النقاد في مقدّمات بحوثهم عن هذا العمل أو ذلك المبدع، والذي يجعل الموضوعية – بمعنى تجرّد الناقد من كل هوى شخصي – أكذوبة أن ذلك من مستحيلات الحياة إجمالاً، فما الذي يضع الريشة على رأس النقد (كما في التعبير المصري الشهير) ويجعله استثناءً؟ لا شيء ولا أحد بالتأكيد سوى النقاد أنفسهم إضافة إلى المبدعين المرضي عنهم ممن تم الترويج لهم أو من الحالمين بالنجاح ممن يسعون إلى اقتناص رضا النقاد المستأثرين بصكوك الإجازة.
الموضوعية (بالمعنى الواسع المشار إليه) أكذوبة ليس لأن الناقد لا يريد أن يكون موضوعياً ابتداءً، ولكنه قد يتخذ من مناهج النقد ما لا يكشف من النص موضوع البحث تجلّياته التي قد يكشفها ما تجنــّـبه الناقد الأريب من مناهج مغايرة ليس ثمة ما يمنع من اتخاذها مداخل للعمل المبدَع الذي لا تحدّه جدران ولا يفضي إليه باب واحد. والموضوعية أكذوبة لأن انقياد الناس خلف أهوائهم دون قصد من سنن الحياة غير المستنكرة كما رأينا، وانقيادهم خلف أهوائهم عمداً من سنن الحياة كذلك وإن كانت مستنكرة أحياناً، والناقد في كل ذلك ليس ملاكاً بل إنساناً بامتياز.
ولكن ماذا عن الانقياد وراء الأهواء إن كان عن سبق إصرار وترصُّد، وهي مرحلة مزمنة من مراحل الانقياد وراء الأهواء عمداً؟ بتحديد أكثر نعني الحالة التي يشترط فيها الناقد على الكاتب أن يستجيب لفروض الولاء والطاعة، بل ويشترط عليه أن يغمره بمستحقات تلك الفروض غمراً.
إذا كان المقصود بفروض الولاء والطاعة أن يتنازل الكاتب فـيُـنـشئ على المثال الذي يرضاه الناقد من أساليب الإبداع ففي ذلك ثلاثة أحكام على الأرجح: الأول “الإباحة بلا كراهة” إذا كان نزول الكاتب على حكم الناقد إدراكاً من الأول لصواب الأخير، والثاني “الإباحة مع الكراهة” إذا كان نزول الكاتب على رغبة الناقد – في اتــّـباع أسلوب بعينه من الكتابة – إرضاءً من الأول لغرور الأخير دون أن يكون للأمر علاقة بأحكام نقدية مصيبة وأخرى مخطئة، ووجه الكراهة هنا أن الكاتب رضي بمحض إرادته أن يُسلم الدفة التي تحدّد وجهة إبداعه إلى غيره حتى إذا كان هو لا يزال يُحكم القبضة على تفاصيل ذلك الإبداع.
أما الحكم الثالث فهو ما يختص بالحالة التي يأبى الناقد (الممسك بصك الإجازة) فيها على الكاتب إلا أن يمالئه فيدخل في حاشيته يهلل لما يستحسنه من طرائق الإبداع ولمن يهواهم من صنوف المبدعين ويحجم عن التهليل فيما عدا ذلك حتى إذا كان ثمة ما يدعو إليه، والأدهى أن يجد الكاتب نفسه مكرهاً على الإحجام عن الإدانة حين يكون ثمة ما يحمل عليها حملاً من الإبداع الرديء داخل حاشية الناقد صاحب “ختم الدمغة”. وإذا كان نص الحكم الأخير معلوماً من الأخلاق بالضرورة بما لا يحتاج إلى المجاهرة به فلا غضاضة من أن نصدع بسؤال أخير: هل يكفي أن يكون النقاد بشراً لكي تــُـغفر لهم مثل تلك الذنوب؟