
هنو لم ترفع يدها أبداً
فأي خيانة اقترفتها حينما لم تلوِّح من بعد؟!
لها ولبقية من عصفت بهم في طريقي, ينداح هذا البوح القذر.
طارق فاضل
إنَّه عَالَم طارق فاضل بطل رواية السعودي عبده خال “ترمي بشرر” الفائزة بجائزة البوكر لعام 2010. عالمٌ امتلأ عن آخره بشُرُور المثليين والعاهرات والسادة الفاسدين والصَّحفيين التافهين وآلاف البُؤساء الذين قذفت بهم الحياة من جُهنم الحي البائس إلى جحيم قصر السيد ودهاليزه. سأعودُ لذلك العالم المدهش الذي شيَّده عبده خال من خلال شخصيَّة طارق فاضل بطل الرواية. سأكتفي في هذه الحلقة الأولى بإطلالة عامة حول روايات البوكر وموقف النُّقّاد من عبده خال.
لو أنَّ صديقي محمَّد محمَّد خير لم يفعل في ملحقيَّته بدبي سوى إهدائي الروايات لكفاه ذلك، ولكن محمَّد خير أينما وقع نفع. تتابع القنوات الفضائيَّة تجد محمَّد خير متحدِّثاً ومحللاً، مدافعاً عن السُّودان، في الصحافة تعثر عليه كاتباً رائعاً فكهاً وممتعاً، تتابع الشأن السياسي الدارفوري خاصة تجد محمَّد خير مفاوضاً مُدهشاً يتحلق حوله المعارضون كأنَّه صديقهم، وهو على قائمة وفد الحكومة. محمَّد شخصيَّة عابرة للأحزاب والأنظمة، لم يحتوِه نظامٌ، وهو حُرٌ طليق يُغرِّد في أي غُصنٍ يشاء.. محمَّد خير هو نفسه شخصية رواية ولذا عشق للرواية، والآن محمَّد خير هو أحد المُحكمِّين في جائزة الشارقة للإبداع الروائي.
دفع لي محمَّد خير هذا العام بأربع روايات كانت على قائمة المحكمين لجائزة البوكر 2010: الأولى، كانت لمحمَّد المنسي قنديل “يوم هادئ على البر الغربي”.. الثانية، “أمريكا” لربيع جابر، “وراء االفردوس” لمنصورة عزالدين مصريَّة، والرَّابعة هي “ترمي بشرر” للسعودي عبده خال. سنعود لهذه الروايات تفصيلاً بعد فراغنا من رواية عبده خال.
محمَّد خير وبحِسِّه النقدي والأدبي الرفيع سلّمني الروايات مُعلناً أنه يرشح عبده خال للفوز. استغربتُ ترشيح محمَّد هذا، وذلك لأنَّ الرواية السعوديَّة لم تدخل بعد خارطة التنافس مع روايات المشرق أو المغرب العربي. ثمَّ من هو عبده خال أصلاً؟! أعرفه ككاتب صحفي في صحيفة ‘عكاظ’، ولكن كروائي، لا، على الرغم من أنني أدَّعي صلة حميمة بعالم الروايات والقصَّاصين، كان عبده خال وروايته البديعة “ترمي بشرر” مفاجأة كاملة بالنسبة لي. كيف يا ترى تنمو الرواية وتزدهر على حُدُودنا ونحن عنها غافلون، نتسقَّط آخر أخبار وروايات كويليو وكونديرا وأرهان باموق التركي! تستغرب حين تعرف أنَّ لعبده خال أكثر من ثلاثة أعمال روائيَّة تُرجمت عالمياً، وهي الطين ونباح وفسوق! ملعونة هذه الصحافة تأخذك عن عالم مليء بالحياة والإبداع لتسطح بك وتُفرِغُك من أي إبداع. اللهُمَّ عافنا منها واعفُ عنا.
الغريب أنَّ الرواية وجدت تجاهُلاً شبه تام من النُّقّاد والصَّحفيين برغم جدارتها وجدارة كاتبها بالاحتفاء، وهي أروع بما لا يُقاسُ من غثاءٍ روائي كثير يتم تضخيمه وهو خُلوٌ من أي قيمة فنيَّة أو أدبيَّة. قارنوا بين الضجَّة التي ثارت في الإعلام العربي والغربي حول رواية الكاتب المصري يوسف زيدان “عزازيل” الفائزة بجائزة البوكر في العام 2008، وهي تستحق الفوز لكن التغطية الإعلاميَّة التي ظفرت بها من حواراتٍ إلى لقاءاتٍ تلفزيونيَّة إلى كتابات نقديَّة، أظهرت الرواية كأنّها أعظم رواية عالمية! في مصر رواية محمَّد المنسي قنديل “يوم هادئ على البر الغربي” لو فازت لأُرينا كيف تقام المهرجانات النقديَّة المادحة تشيد على عظمتها، الحمد لله أنَّ رواية قنديل خرجت من المنافسة بسبب تاريخيتها السرديَّة المُملَّة، إذ لم تتجاوز الرواية كونها كتاباً تاريخياً سياحياً دعائياً، محشوَّة بأفعالٍ سياسيَّة وبطولاتٍ وطنيَّة سمجة لا معنى ولا قيمة فنية لها، خصمت من الرواية أكثر مما أضافت لها. حتى بطلة الرواية “عائشة” التي بدأها قنديل بشكلٍ مُبهر أفرغها من مضمونها بطريقة سرده الأجوف الخالي من الإبداع.
النقد المُنحاز المسجون في ضيق أفقه القومي حتى في مجالات الإبداع، لا يترك فرصة للرواية العربيَّة لتنمو وتنافس عالمياً، وهذا زمان الرواية. لا أتفق مع الذين يدَّعون أنَّ غيرة الروائيين والنُّقّاد المصريين من أي إبداعٍ آخر يأتي من بعيد، بسبب أنَّ مصر شاخت روائياً. هُناك جيلٌ من الرِّوائيين المصريين والرِّوائيات صاعد، وتشارك مصر في جائزة البوكر كل عامين بأكثر من أربع روايات، وهذا العام نافست بقوَّة الروائيَّة منصورة عزالدين على الجائزة بروايتها “وراء الفردوس”.
النَّاقد الفذ رجاء النقاش كان عظيماً وهو يُقدِّم للعالم في الستينيات الطيِّب صالح، في وقتٍ كانت فيه مصر تزدحم بروائع العظام (نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وإحسان عبدالقدوس، وغيرهم). وذلك قبل أن يُطلَّ على عالمها الروائي خالد الخميسي بروايته التافهة “تاكسي” عديمة الخيال، ولكن حين تسمع النُّقّاد يحتفون بها كأنَّ لم يُكتب مثلها في العالمين “تستغرب وتدِّي ربَّك العَجَب.. يا ربي أنا ما بفهم، أم ديل نُقاد بيستعبطوا؟!