
نعيش هذه الأيام مع نسمات الحج واشواق المحبين التي تزهر مع الموسم فهذه النفوس منذ النداء الأول للخليل عليه السلام فهي محبة لأمر الله تعالى وقد بين القرآن الكريم هذا النداء في سورة الحج (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴿٢٧﴾.
والله سبحانه وتعالى أودع في النفس الإنسانية أسراراً عظيمة فهي تحن وتشتاق وقد عبر العلامة السوداني الراحل البروفيسور عبد الله الطيب عن ذلك فقال (الشوق والحنين من أعمق المعاني الإنسانية وأشدها لصوقا وعلوقا بالنفس).
فالحج من معانيه توجه افئدة المسلمين نحو بيت الله الحرام والمشاعر والمناسك ففي كل موقف تسكب العبرات للحجاج، ويبكي في كل يوم من لم يكتب الله له الحج في الموسم المعين وقد خلدت كثير من المواقف والاشعار في ذلك نأخذ طرفا منها في هذا المقال:
فقد ورد في كتاب اخبار مكة للفاكهي عن عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا مِنْ خُرَاسَانَ وَمَعَنَا امْرَأَةٌ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الْحَرَمَ جَعَلَتْ تَقُولُ: أَيْنَ بَيْتُ رَبِّي؟ أَيْنَ بَيْتُ رَبِّي؟ فَقِيلَ لَهَا: الْآنَ تَأْتِينَ بَيْتَ رَبِّكِ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الْمَسْجِدَ قِيلَ لَهَا: هَذَا بَيْتُ رَبِّكِ، قَالَ: فَاسْتَنَدَتْ إِلَى الْبَيْتِ فَوَضَعَتْ خَدَّهَا عَلَى الْبَيْتِ، فَمَا زَالَتْ تَبْكِي حَتَّى مَاتَتْ.
و من أشهر ما قيل من اشعار في ذلك قصيدة البرعي اليماني الذي فاضت روحة بالقرب من المدينة المنورة ولم يدرك الحج
يَا رَاحِلِينَ إِلَى مِنًى بِقِيَادِي *** هَيَّجْتُمُو يَوْمَ الرَّحِيلِ فُؤَادِي
سِرْتُمْ وَسَارَ دَلِيلُكُمْ يَا وَحْشَتِي *** الشَّوْقُ أَقْلَقَنِي وَصَوْتُ الْحَادِي
وَحَرَمْتُمُو جَفْنِي الْمَنَامَ بِبُعْدِكُمْ *** يَا سَاكِنِينَ الْمُنْحَنَى وَالْوَادِي
وَيَلُوحُ لِي مَا بَيْنَ زَمْزَمَ وَالصَّفَا *** عِنْدَ الْمَقَامِ سَمِعْتُ صَوْتَ مُنَادِ
وَيَقُولُ لِي يَا نَائِمًا جِدَّ السُّرَى *** عَرَفَاتُ تَجْلُو كُلَّ قَلْبٍ صَادِ
مَنْ نَالَ مِنْ عَرَفَاتِ نَظْرَةَ سَاعَةٍ *** نَالَ السُّرُورَ وَنَالَ كُلَّ مُرَادِ
والامام الزمخشري حينما أراد الحج وعزم عليه واعترضته زوجته تماضر تريد منه البقاء معها:
قامت لتمنعني المسير تماضر *** أنى لها وغرار عزمي باتر
شامت عقيقة عزمتي فحنينها *** رعد وعيناها السحاب الماطر
حِني رويدك لن يرق لظبية *** وبغماها ليث العرين الزائر
أرخي قناعك يا تماضر وامسحي *** عينيك صابرة فإني صابر
لو أشبهت عبرات عينك لجة*** وتعرضت دوني فإني عابر
إني لذو وجد كما جربتني *** صلب وبعض الناس رخو فاتر
ونختم بلهفة المشتاق هذه والتي أوردها الامام ابن رجب في لطائف المعارف: رأى بعض الصالحين الحاج في وقت خروجهم فوقف يبكي ويقول: واضعفاه وينشد على أثر ذلك:
فقلت دعوني واتباعي ركابكم. . . أكن طوع أيديكم كما يفعل العبد
ثم تنفس وقال: هذه حسرة من انقطع عن الوصول إلى البيت فكيف تكون حسرة من انقطع عن الوصول إلى رب البيت؟! يحق لمن رأى الواصلين وهو منقطع أن يقلق ولمن شاهد السائرين إلى ديار الأحبة وهو قاعد أن يحزن.
محمد يوسف العركي
باحث في استراتيجيات المعرفة