
هل يكون فتح سد النهضة هو الخطة “Z” لإغراق السودان؟
الخرطوم – د. محمد حمزة الشريف
مقدمة:
منذ أكثر من عقد، والسودان يواجه تحديات جسيمة تتجاوز الحروب الداخلية والأزمات الاقتصادية، لتطال أمنه ومستقبله الديموغرافي (السكاني) والجغرافي. ومع الفشل المتكرر لمخططات تمزيقه وإعادة تشكيله ديموغرافيًا، نطرح هنا بعض الهواجس المقلقة، والقراءات الاستراتيجية. ويلحُّ علينا هنا تساؤلاً مقلقًا: هل يمكن أن يكون إغراق السودان عبر سد النهضة هو الورقة الأخيرة؟ أو ما يمكن تسميته بالخطة “Z” في مشروع ابتلاع السودان؟
هذا السؤال ليس من قبيل المبالغة، بل يستند إلى معطيات هندسية وجيوسياسية تستحق التأمل والدراسة الدقيقة.
سد النهضة: الموقع والمعطيات التقنية:
يقع سد النهضة في الهضبة الإثيوبية على ارتفاع يتراوح بين 500 و600 متر فوق سطح البحر. القاعدة عند مستوى يقارب 505 أمتار، بينما يصل ارتفاع السد نفسه إلى 145 مترًا. وباكتمال المشروع، تصل السعة التخزينية القصوى للبحيرة خلفه إلى 74 مليار متر مكعب، وهي كمية تعادل تقريبًا تدفق النيل الأزرق لعدة سنوات.

حتى سبتمبر 2023، وبعد الملء الرابع، بلغ التخزين 41 مليار متر مكعب، ومع استمرار الملء الخامس قُدّر أن يصل إلى 64 مليار متر مكعب بحلول هذا العام 2025م. هذه الأرقام تكشف أن السد قد بات خزانًا مائيًا هائلًا يمكن أن يغيّر ملامح المنطقة بالكامل إذا استُخدم كسلاح، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
بين الفيزياء والهندسة:
هل الانهيار ممكن؟ تؤكد الخبرات الهندسية أن السدود الكبرى نادرًا ما تنهار لأنها تبنى وفق معايير صارمة. ومع ذلك، لا يُستبعد نظريًا وقوع انهيار بسبب عوامل طبيعية (زلازل، فيضانات غير متوقعة) أو بشرية (أخطاء تشغيل، أو حتى تعمد فتح البوابات بشكل مفاجئ).
المساحة التي تشغلها بحيرة سد النهضة تبلغ نحو 1874 كيلومترًا مربعًا، بطول 150 كيلومترًا. ما يعني أن أي خلل كبير في إدارة السد سيطلق موجة مائية بحجم يكفي لاجتياح مساحات شاسعة من الأراضي السودانية.
السيناريوهات المحتملة في حال انهيار السد أو فتح بواباته:
أ. التأثير المباشر على السودان:
السودان هو الحلقة الأضعف والأقرب جغرافيًا. تشير التقديرات إلى أن الموجة الفيضانـية قد تصل إلى العاصمة الخرطوم خلال 17 ساعة فقط.
النتائج المتوقعة:
١. تدمير سدود السودان الأصغر (مثل الروصيرص وسنار).
٢. غمر مساحات واسعة من المدن والقرى على النيل الأزرق.
٣. في الخرطوم، قد يصل ارتفاع المياه إلى 8 أمتار، كفيلة بمحو أحياء بأكملها.
٤. خسائر بشرية قد تصل إلى مئات الآلاف، فضلًا عن نزوح ملايين السكان.
٥. انهيار البنية التحتية: طرق، جسور، محطات كهرباء، وشبكات مياه.

ب. التأثير غير المباشر على مصر:
في مصر، الصورة أقل قتامة بسبب السد العالي وبحيرة ناصر، التي تصل سعتها إلى 162 مليار متر مكعب.
١. الموجة بعد مرورها بالسودان ستفقد الكثير من شدتها.
٢. بحيرة ناصر قادرة على امتصاص جزء كبير من الكمية المفاجئة.
٣. مع ذلك، سيرتفع منسوب النيل بشكل ملحوظ، وقد تتأثر بعض الأراضي الزراعية المنخفضة شمالًا.
لذلك على السودان أن يتحمل أسوأ الاحتمالات وحده، فلا يجب التعويل على مصر بصورة كبيرة حال حدوث تهديد بالفيضان، لكنها إن أرادت فإن تأثيرها مقدَّر في حفظ التوازن.
قراءة سياسية:
سد النهضة برز كورقة ضغط منذ بدايته، إذ لم يكن مشروعًا تنمويًا بحتًا كما تروّج إثيوبيا. بل ارتبط بخطاب سيادي وسياسي يوظف المياه كسلاح جيوسياسي.
السودان هو الحلقة الأكثر هشاشة:
قُدِّر للسودان أن يكون الحلقة الأضعف في حرب الموازنات التي تدخل فيها المياة أساساً للصراع، لعدة أسباب أهمها:
١. موقعه الجغرافي يجعله عرضة لأي تلاعب في مناسيب المياه.
٢. إذا أراد خصومه استخدام “الخطة Z”، فإن مجرد فتح بوابات السد بشكل مفاجئ قد يكفي لخلق موجة فيضان مدمرة، دون الحاجة لانهيار كامل.
٣. بذلك يصبح السد أداة ابتزاز وضغط، لا مجرد مشروع كهربائي.
الأبعاد الاستراتيجية والأمنية التي يتحكم فيها السودان:
الخوف من إغراق الخرطوم قد يفرض على السودان مواقف سياسية حازمة تجاه إثيوبيا أو غيرها من القوى المرتبطة بالمشروع. فالسودان يعرف كيف يدير الصراع ولديه من الأوراق ما يجعل المتلاعبون بأمنه وسلامته يفكرون ألف مرة قبل المجازفة بتصرف متهوِّر. هذا بالإضافة إلى أن بعض القوى الكبرى (الصديقة للسودان)، لن تقف مكتوفة الأيدي أمام كارثة إنسانية بهذا الحجم. لكن السؤال: متى سيكون تدخل هذه القوى؛ بعد وقوع الكارثة، أم قبلها؟
السودان: بين الخطر والتخطيط للطوارئ:
إزاء هذا التهديد المتوقع فإن السودان بحاجة إلى:
1. خطط طوارئ وطنية لمواجهة سيناريو الفيضان، تشمل إجلاء السكان القاطنين على ضفاف النيل الأزرق.
2. تعزيز المراقبة والتنسيق مع إثيوبيا لتفادي أي تشغيل غير متفق عليه للسد.
3. بناء أنظمة إنذار مبكر، تتيح الاستجابة السريعة قبل وصول الموجة.
4. تعاون إقليمي ودولي يضمن عدم استخدام المياه كسلاح سياسي.
هل يمكن أن تكون “الخطة Z” واقعية؟
الاحتمال ليس صفرًا، لكنه أيضًا ليس السيناريو الأكثر ترجيحًا. فاستخدام سد النهضة لإغراق السودان سيكون مغامرة مكلفة سياسيًا وأخلاقيًا لإثيوبيا أو أي طرف يدفعها لهذه المغامرة، لأنه سيعني كارثة إنسانية عالمية لن يمر عليها المجتمع الدولي مرور الكرام. ومع ذلك، يبقى مجرد التفكير في هذا السيناريو كافيًا لاعتباره جزءًا من معادلة الابتزاز السياسي للسودان.
إن فكرة أن يكون فتح سد النهضة هو الخطة “Z” لإغراق السودان تبدو أقرب إلى سيناريو كابوسي قد لا يحدث إلا في أسوأ الظروف. لكن وجود السد، بسعته الهائلة وقربه من السودان، يجعل هذا الاحتمال قائمًا على الأقل نظريًا.
التحدي:
السودان، بما يحمله من هشاشة سياسية واقتصادية، يظل الأكثر عرضة للخطر. لهذا يحتم على صانعي القرار في الخرطوم والشعب السوداني معًا، الاصطفاف في خندق واحد لمواجهة أسوأ الاحتمالات، واستصحاب المجتمع الدولي (الحُر).
فالتجربة الماثلة أما العالم، والتي أبهرت العدو قبل الصديق، هذا الثبات الانفعالي وامتصاص أخطر صدمة يمكن أن يتعرض لها شعب، وهي الإجلاء والتهجير القسري. فالسودانيون هم وحدهم من يصنعون المُعجزات، ووحدهم من يفرضون على الآخر احترامهم، وتعيس من يسعى لإذلالهم أو المساس بكرامتهم.
فالسودان رجاله ونساؤه شيبه وشبابه يقاتلون، ومن خلفهم أطفاله يقاتلون، حتى إذا قُدِّر فناؤهم؛ فأرضه وحجارته تقاتل من يعتدي على سيادته وعزته.
والرسالة الأهم:
لا بد من سياسات وقائية، لا انتظارية. فالكارثة إذا وقعت لن تمنح السودان سوى ساعات معدودة للاستعداد، بينما اليوم ما يزال هناك وقت للتخطيط، والتحرك الدبلوماسي، ثم تحريك أوراق اللعب.





