
مابين بورتسود والخرطوم ، اسرعت الخطي للقاءهم المسافة كانت يوم وبعض يوم ، أحاول أن أصل بخيالي قبل جسدي ، أرسم معالم للقاء كيف سيكون بعد غياب اكثر من سبعة أشهر ، عن الدار والأهل ؟ ، ولكن القلب لم يحزم أمتعته معي في رحلة الترحال الطويلة القسرية ، وظل مقيما وسط أهلي وعشيرتي وهم في نزوح بعد صمود طويل رغم الجوع والخطر المحدق بهم في كل لحظة وظلوا مرابطين في الديار حتي استفحل الجوع وتحولت الكارثة الي مسغبة عجز عن تحملها الصغار بسبب الحرب ، بدأت بأولهم الاثيرة الي نفسي القريبة الي قلبي كيف سألتقيها دار السلام بت حامد ود مصطفي ود أبوعكف آخر سلالة الطيبين في امهاتي ، تلك المرأة التي حازت علي مساحة كبيرة من حياتي ، لم تكن خالتي شقيقة والدتي فحسب ، ولكنها كانت أمي وبيني وبينها ود ، وسر ، وحديث يعرفه القاصي والداني ، كانت تجد فيني أبنتها التي فقدتها طفلة ، وكنت أجد فيها أمي الثانية ، وكانت أمي رحمة الله عليهما تقول أنني (بت دار السلام ) ، تلك المرأة القصيرة القامة التي كانت تحمل ملامح الزمن الجميل وشلوخها المرصوصة بعناية تزيدها جمالا ، وشعرها الذي كنت أتفنن في تمشيطه ،وكانت أحيانا تغضب حينما أمشطها بما لايعجبها ، ولكنها كانت تعاتبني إذا تأخرت يوما عن ملاقتها ، علي الرغُم من أننا نسكن سويا ، تحفني (أم محمد) بمحبة خصتني بها عن سائر أفراد العائلة ، وكنت أجد راحة كبيرة في دعوتها الدائمة لي (ينضف عقلك ) ، (ودعتك لصاحب الوداعة يغطيك ويداريك ويبعد عنك من يعاديك )، كنت أجد فيها الملاذ الآمن ، أبثها اسراري وقلقي وخوفي ، وكنت لها المتكأ والسند ، ياااااه كم كانت تحمل قلبا نقيا لايحمل للناس سوي الحب ، تتعطر بفطرة الزمن الجميل ، وعلي الرغم من غياب البصر عنها ، إلا أنها كانت كاملة البصيرة ،كانت مُلمة بكل الأحداث والتطوارت علي المستوي العالمي والداخلي فهي عاشقة لإذاعة أمدرمان ومذياعها الصغير لايفارقها البتة ، أخُرجت (بت حامد) من دارها مرتع صباها وطفولتها ومهد آباءها وأجدادها مخلفة خلفها فراغا عريضا ناحت فيه الذكريات علي هذا الرحيل القسري ، خرجت الي وجهة لم تكن تعلمها وهي محمولة لاتدري كيف هو الطريق ؟ ، والي اي إتجاه تتجه الخطي ؟ ، حتي حطت رحالها في دار لم تألفها ، ولاتعرفها ، ولكن لابد مما ليس من بُد ، واصبحت عزيز قوم ذل ، باتت تسكن تحت وطأة الخوف من المجهول ، ونار الحرب المستعرة تزيد في إستعارها ، ودوي المدافع وفقد البصر جعلوها ترفل في لباس الحزن والألم حتي افقدها الوعي وجعلها في غيبوبة ، قاتل الله قاتل (أم محمد بت حامد ود ابوعكف) ، ولعنة الله علي الحرب التي فعلت فينا كل هذا الألم ، رحلت ( دار السلام بت حامد ) العفيفة الفاضلة الأبية بعيدا عن الديار والعشيرة لتتوسط شهداء القوات المسلحة الذين حفروا لها قبرا بجوارهم مرددين أنها أمنا ، وفي ذات الوقت حفر لها الأهل والعشيرة قبرا ليكون صدقة لها ، لتصبح أم قبرين بعد أن حسم احد الحكماء الجدل حول من سيدفنها لتكون في معية الشهداء ، أي حظوة نالتها وهي المقتولة كمدا وحزنا وخوفا ورعبا وألما وغربة . حضرت اليها مسرعة لأجدها قد غادرت الفانية بعد تنويم طويل في المستشفي حالت وسائل التواصل دون معرفة ماعلق بها ، ولسان حالها يناديني وهي في غيبوبتها كانها ترُيدني أن أعيدها الي الديار وحديثه ، ولكنها ستكون بين يدي الله تشكي إليه مصابها وظُلم الظالمين لها الذين تفننوا في ظلمنا وعند الله تجتمع الخصوم.
رؤي أخيرة
أحاول أن أجمع شعثي ،، علني أفيق من حقيقة أننا لن نكمل حكاوينا وسمرنا ،، وأنني لن أسمع دعواتك