المقالات

السفير عبد الله الأزرق يكتب: واشنطن (6)

الخرطوم تسامح نيوز

وصلتُ لواشنطن وأنا مدرك لأهمية أن يحيط الدبلوماسي بمفردات وتعقيدات العلاقات الدولية؛ وأن يظل يقظاً بمعطيات واقع علاقة دولته بالدولة المضيفة. فليس ثمة ما هو أفدح من أن يقرأ واقع تلك العلاقة بناءً على الأهواء والرغبات والتفكير الرغائبي.

وبنفس القدر يجب أن يكون عالماً بقدرات بلاده الاقتصادية وتماسكها الاجتماعي، وإمكاناتها العسكرية، ومدى الاندماج الثقافي بين مكوناتها الاجتماعية.
وصلتُ وكانت أميركا وضعت السودان قبل وصولي بعام في قائمة الدول الراعية للإرهاب. وهكذا ، يحتم الواجب على سفارتنا أن تفكك الحجج التي بُنيت عليها التهمة، وأن تعرف الأطراف الضالعة في بناء الاتهام؛ لتتمكن من تحقيق بعض اختراق.
لم يغب عني أن القيام بذلك الواجب يتطلب جهداً عظيماً وتصميماً، وستكون صراعاً مريراً An up hill battle .

اقترحتُ على الوزير المفوض (وقتها) ميرغني صالح أن ندعو الدبلوماسي الممسك بملف السودان بالخارجية Sudan Desk Officer , لغداء لنسمع منه، ونعرف أبعاد علاقاتنا من وجهة نظرهم.

وقبل وصولي لواشنطن، كانت حركة التمرد شنّت هجوماً على جوبا بقصفها بالمدفعية..
ووفقاً لرواية شائعة آنئذ أن الطيار السوداني الشهير كابتن شيخ الدين محمد عبد الله، كان يقترب بطائرة الخطوط الجوية السودانية للهبوط في مطار جوبا؛ والتقط إشارات لاسلكي تصحح قصف المتمردين لجوبا فأبلغ القيادة العسكرية؛ التي أصاخت السمع عبر أجهزتها، لتكتشف أن الإشارات صادرة من مكتب المعونة الأمريكية بجوبا، بل وحددت أن الذي يقوم بالتصحيح هو ضابط اتصالات جنوبي يعمل موظفاً محلياً بالمعونة واسمه تومبي. واعتقلته وحاكمته وأعدمته.
أثار ذلك الإعدام حفيظة أميركا لكننا لم نكن نعرف.
دعَونا الدبلوماسي للغداء وهو من قسم شرق أفريقيا؛ فالسودان يتبع شرق أفريقيا في الخارجية الأمريكية.. وفوجئت بأنه شاب في أوائل الثلاثينات من عمره.. واستجاب الرجل للدعوة.
ليتنا ما دعوناه.
كان الشاب بعيداً عن موجبات المجاملة الدبلوماسية منذ البداية.
وعلى الفور تذكرت تجربتي مع رصيفي Counterpart في السفارة الأمريكية بنيروبي؛ وذلك أنني طلبت لقاءه أول أيامي بها للتعرف عليه أو ما يعرف تقليدياً بزيارة المجاملة Courtesy Call التي يقوم بها الدبلوماسي الجديد لنظرائه الأقدمين.
وحين وصلتُ السفارة بعد تحديد التوقيت بواسطة سكرتيرة سفارتنا، وقدمت بطاقتي في الاستقبال، طُلب إليّ أن أدخل لأفاجأ بسيدة تحمل كاشف المعادن metal detector.
سألتها عما تريد فعله؟
فأجابت أنها ستفتشني بذلك الجهاز!!
فقلت لها: أنا قادم في زيارة مجاملة لزميل بعد عمل الترتيبات المعهودة، لذا فأنا لن أقبل إجراءها ذاك.
واتصل الاستقبال بالقائمة بالأعمال فوجهتهم أن يسمحوا لي بالدخول.
وعند وصولي للزميل، وبعد تبادل عبارات المجاملة ذكرت له الواقعة؛ فقال بِصَلَف: إننا نفتش حتى السفراء!!! ولم يكن لطيفاً ولا دبلوماسياً بحال.

بدأ السيد الوزير المفوض الحديث كونه أعلى درجة مني، وكما تقتضي الأعراف. وكان يتحدث كدبلوماسي مُجَرّب وعارف بالقواعد؛ وبدأنا في تناول الطعام. ولم يبدِ زميلنا الأمريكي لياقةً خاصة أن ميرغني أعلى منه درجة، وما كان بشوشاً أو لطيفاً؛ بل بدأ حديثه مباشرة يلومنا على “قتل زميلنا تومبي في جوبا”.
حاول ميرغني تجنب التعليق في موضوع حساس في أول لقاء مجاملة.. وحاول صرف الحديث لموضوع آخر؛ لكن أمير الثُقلاء ذاك أعاد الحديث عن “قتلنا” لزميله تومبي.. وعَبَثاً حاول ميرغني صرفه عن موضوع “قتلنا” لزميله تومبي.
تدخلت في الحديث مشيراً إلى أن تومبي وفقاً لما نعرف ليس دبلوماسياً أمريكياً يتمتع بحصانة دبلوماسية، وأنه موظف محلي؛ وفوق ذلك هو مواطن سوداني ارتكب جريمة عقوبتها الإعدام بالقانون السوداني.
ولم يُجدِ ذلك فتيلاً، فقد أعاد الرجل تكرار حجته الفارغة، وتحدث بعجرفة وبكل صرامة وهو مُقَطّب الجبين، وبصورة كأنما أراد أن يهيننا وهو ضيفنا.. وإلّا فكان يمكنه أن يكون صارماً ومهذّباً Firm and Polite في نفس الوقت، كما تقتضي أصول الدبلوماسية في هذا الصدد.
وسعى السيد الوزير المفوض ليفتح موضوعاً آخر لتجنب هذا الموضوع المحرج، لكنّ صاحبنا لم يتزحزح قيد أنْمُلَة عن الموضوع.
عندها ضِقت به ذرعاً، وقلت له: إن تومبي كان بالنسبة لنا جاسوساً، بل مشاركاً باتصالاته في معركة حربية.
فرد: تمبي زميلنا وقتله مسيئ للولايات المتحدة الأمريكية.
عندها شعرت أنه لا فائدة من المجاملات الدبلوماسية مع شخص لا يرعى قواعدها؛ فقلت له: إننا نحب قتل الجواسيس حتى ولو كان جاسوساً أمريكياً!!!
احمر وجه الفتى، وردد نفس العبارات التي اسمعنا إياها مراراً.
والمهم أنه أفسد جلستنا بثقالاته، وتوتر الجو، فانفض سامرنا بعد مدة وجيزة.
وفهِمتُ أن ما قاله ربما كان رسالة طُلب منه توصيلها، لكنه لم يكن ذكياً ودبلوماسياً في إيصالها.

في بحثنا عن مظان اختراق، اقترح الوزير المفوض ميرغني أن نلتقي بهيرمان كوهين مساعد وزير الخارجية الأسبق للشؤون الأفريقية.
استصوبت الفكرة بناءً على أن اليهودي ربما قال شيئاً مفيداً؛
وقناعة أن الطبقة الحاكمة في الغرب تظل عناصرها ذات تأثير وعلاقات حتى بعد أن تترك المنصب؛ ثم أن الرجل يهودي ولليهود تأثير ضخم في أمريكا.
وكنت أعلم أنه كان اقترح على المسؤولين السودانيين فصل جنوب السودان بحدود نهري السوباط وبحر العرب، بحيث تصير المنطقة شمالهما، بما في ذلك جزء من أعالي النيل وأبيي جزءاً من السودان. ولكن الحكومة السودانية رفضت مقترحه.
ذهبنا للرجل، وما أن أعطيناه بطاقات التعريف حتى سألنا: من فيكما السياسي؟ يعني المُعين سياسياً، فبادرت بالإجابة: أنا السياسي.. عندها كتب شيئاً لا أعرفه على بطاقتي. وكان لطيفاً ودوداً معنا، فهو رجل كبير في عمره وله تجربة واسعة.
جلسنا وتحدثنا، لكنه ركز في حديثه على الاستثمار في السودان والجوانب الاقتصادية. ومما أذكره أنه قال: إن في المياه الاقتصادية السودانية أجود وأكبر أنواع الجمبري Shrimp في العالم؛ وقال: إنه سيسعى لإدخال شركة أمريكية لصيد الجمبري في المنطقة.
لكن هذا لم يحدث.. ربما للموانع الناجمة عن وضع السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب.
بعد بضع سنوات علمت أن شركات صيد مصرية تعمل في صيد الجمبري في نفس منطقة مياهنا الاقتصادية دون إذن من السلطات السودانية!!!

السفير عبد الله الأزرق

11 نوفمبر 2023

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى