المقالات

عمرو منير دهب✍️..انا لست انا

أنا لست أنا

عمرو منير دهب
nasdahab@gmail.com

الطفل الذي كان بالكاد يتقلّب في مهده لا أذكره بطبيعة الحال، ولأنني صاحب ذاكرة ضعيفة (بالفطرة على ما أرجِّح، رغم أن من المقرَّبين الماكرين من يزعم أنها ذاكرة انتقائية وليست ضعيفة مطلقاً) فإنني لا أذكر حتى ذلك الذي كبر قليلاً فبات يتكلّم بوضوح في سن الثالثة أو ما بعدها بقليل، وأجد حقاً صعوبة كبيرة في تصديق المقرّبين من الأصدقاء وسواهم ممن يقولون بأنهم يذكرون بوضوح تفاصيل يوميّاتهم وهم حوالي الثالثة من العمر.

الولد الذي دخل المدرسة وظل مرتاباً من سائر ما حوله في اليوم الأول وما بعده (بقليل؟) أذكره جيداً، ولا فخر. والصبي الذي انتقل إلى “الثانوي العام” (بعد السنة السادسة من التعليم الابتدائي كما كان في أحد السلالم التعليمية السابقة) أذكره أيضاً بوضوح وأذكر معه تفاصيل تلك المرحلة بنفس الوضوح الذي يزعمه المقرّبون وسواهم – مع تفاصيل حياتهم في الثالثة من العمر – ممن لمزناهم قبل بضعة سطور.

ليس من الحكمة أن أستطرد فأبيِّن بعدها كيف أنني أذكُر نفسي وتفاصيل حياتي في المرحلة الثانوية العليا وفي الجامعة وما بعد ذلك، وإن تكن الإشارة الجديرة بالذكر أنني أكثر ميلاً إلى النسيان منــِّـي إلى التذكُّر حتى مع بعض الخطوط العريضة جداً في حياتي لا تفاصيلها فحسب. غير أن هذا الحديث ليس معنيّاً في المقام الأول بذاكرتي ولا بي بوجه خاص وأنا أتقلّب على مدى مراحل العمر المتعاقبة في لمح البصر، وإنما بالإنسان (أي إنسان) وهو يراقب نفسه (أو يراقبه الآخرون) متقلِّباً بين سنة وأخرى ومن حال إلى حال.

أنا في المهد غيرُ ما عهدتُ نفسي في “الروضة” كما يتبدّى من الصور التي أحتفظ بها للشخصين اللذين يُفترَض أنهما الشخص ذاته، وأنا في بدايات المدرسة شخصٌ لا علاقة لسيماه بمن تلاه بعد سنوات قليلة من العمر فضلاً عن التالي من الحقب عندما يتعلّق الأمر بالهيئة، فكيف بالحالة النفسية وأمرُها من التعقيد على ما نعرف؟

فإذا أضفنا المبادئ إلى الشكل والحالة النفسية أصبح “أنا الذي ليس أنا” حقيقة تكاد لا تقبل الجدال، فثلاثي الشكل والمزاج والمبادئ عصيٌّ على الثبات إلى حد الاستحالة عندما يتعلّق الأمر بالواحد تتقاذفه أحوال الدنيا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ومن أعلى إلى أسفل، وفي عكس الاتجاهين المذكورين، وقــُطريّاً من أيٍّ منهما إلى الآخر، ولا مبالغة أو “استظراف” في وصفنا الأخير كمقذوفات للدنيا، فما تفعله بنا في الواقع أشدّ مكراً وأدهى أثراً من أي وصف.

ولولا أنني أصحب نفسي لجزمت أن مـَـن ظل يُشار إليه بالاسم الذي يخصني فيما مضى وإلى الآن هو أكثر من شخص، فهيئتي تقلّبت من نقيض إلى نقيض ثم إلى نقيض النقيض دون أن ترتد إلى صورة مطابقة أو قريبة لما كانت عليه يوماً ما، بل مختلفة باستمرار اختلافاً كبيراً. ومزاجي أزعم أنه كما هو، لكن من أثق بهم من المقرّبين يلمحون إلى تغيرات عليه – لا يمكن وصفها بالطفيفة – كثيراً ما أجد نفسي مضطراً إلى قبول بعضها على أنه حقيقة حين أخلو إلى نفسي. أما مبادئي فلا أزال مصرّاً على أن جوهرها لم يتبدّل رغم أنني لا أرى بأساً اليوم بأشياء كنت أناصب المقاطعةَ من كان يعتقدها قبل عقدين أو أقلّ من الزمان.

أغدو أنا إذن قبل عقدين أشبه بشخص آخر – أعرفه أو لا أعرفه – منــِّـي إلى شبهي بشخصي الآن إنْ شكلاً أو مزاجاً أو توجُّهاً، وبتقريب عدسة مكبِّرة عظيمة الدقة منــِّـي أجدني مختلفاً عمّا كنت عليه قبل قليل، حتى إنّ نُسَخي على هذا القياس ستصير بعدد يفوق من عرفت من البشر إذا أمكن تخيُّلها منفصلة بتلك الدقة المتناهية في التقاط التفاصيل قلوباً وقوالب.

كلّما تقدّم بي العمر أصبحت أكثر إشفاقاً على “أنا” وهو يهرم من هول ما مرّ به مع رفاقه الذين صحبهم وهم ينتحلون الشخصية ذاتها على مرّ السنوات فيصادق الناس ببداهة وإصرار على ذلك الانتحال.

“أنا” العجوز أكثر سكينة بدافع الخبرة في الحياة وأكثر ضجراً من قلّة الحيلة في الحياة. الأهم أنها أكثر انشغالاً بـ”أنا” القادم الذي سيجب كل من قبله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى