المقالات

عمرو منير دهب✍️..مشية العجوز

nasdahab@gmail.com

إذا كان من علامات الِكبر ما هو فارق في تحديد العمر لدى الأطباء بنِسَب دقة تتجاوز التسعين في المائة، ولكن بعد سلسلة من الفحوص المختبرية المحكمة، فإن لدى سائر الناس حساباتهم الخاصة في تخمين أعمار مَن حولهم رجوعاً إلى علامة أو أكثر من العلامات المعتمِدة على مظهر أو أداء عضو من أعضاء الجسد، وذلك ليس مستغرَباً تماماً. وعندما يكون المشكوك في عمره عجوزاً بالفعل (أو يكون كِبَرُه مثارَ جدال من أي قبيل) فإن الحديث يصبح عن علامات الكِبَر تحديداً لا علامات قياس أو تخمين العمر بصفة عامة.

وبقدر ما تكون علامات الكبر لدى العجوز مكمن انزعاج وتذمُّر فإنها لدى الآخرين (باستثناء أخلص المقربين) مثارٌ للحديث العذب وأحياناً مبعثٌ على التشفّي، حتى إن الناس – اللصيقين بالعجوز ومن يراقبه من بعيد على السواء من غير ذوي العلاقة الحميمة – يتبارون في حزْر عمره والتقاط ما يجدّ عليه من علامات الكبر كلّ يوم، إنْ لم يكن بقدر واضح من الانتشاء فبحالة بيِّنة من عدم الاكتراث على أحسن الأحوال.

العجوز عادة مشغول بهمِّه من التقدّم في السن عن ملاحظة من يراقب علامات كبره ويضحك عليها خلسة، دع عنك أن ينتقم من أولئك إذا ما أدرك شيئاً من صغائر أفاعيلهم بالغضب أو المقاطعة، وأغلب تلك الأفاعيل – إن لم يكن كلها – على أية حال من قبيل ما يُتلذّذ به عن طريق المناجاة لمزاً لا المواجهة مجاهرةً.

وإذا كانت مشية الواحد من أكثر العلامات الدالّة على شخصه تحديداً فإن المشية تغدو تقريباً متشابهة الدلالة بين الجميع وهم يدخلون زمرة “العجايز”، عندها لن يفطن حتى أقرب الناس – بعيداً عن المناجاة واللمز – سوى لما يشير إلى الكِبَر من علامات المشية دون التفات ذي بال إلى مقارنتها بما كان عليه العجوز وهو كهل أو شاب مقارنةً حرفية.

وبرغم أن المشية تتبدّل بفعل المرض بصورة واضحة ومميزة، فإن مشية المرء التي تتغير وهو يتقدّم في السن بصرف النظر عن أية أمراض مصاحبة للكبر أكثرُ وضوحاً وتميّزاً، فهي تثاقُل أو اعوجاج في الحركة تصاحب أيّاً منهما قامةٌ مجهَدة بتأثير عظام ومفاصل نال منها الزمان بقانون الاستهلاك بالاستعمال Wear and Tear المعروف لدى خبراء المالية وهم يقدِّرون قيمة الأشياء تُستهلك نتيجة عمرها الافتراضي وليس بإتلاف فاعل متعمِّد من البشر أو الظروف.

مشية المريض غير العجوز المتثاقلة متحفزة إلى النشاط وإن انتابها الضيق من مرض عارض، وتوّاقة إلى الحركة المستقيمة المتوثبة حتى إذا كان المرض مقيماً في صحبة الشباب أو الكهولة، بينما مشية العجوز تشي بالاستسلام بدرجة أو أخرى مهما تكلّف صاحبُها إظهارَ الصحة أو النشاط.

والصحة والنشاط ليسا بالضرورة مما يخاصم كل عجوز، ولكن صحة العجوز ونشاطه غيرُ صحة الشاب ونشاطه، فإذا كان التعميم جائراً فالثابت على الأقل أن صحة أيّ عجوز ونشاطه غيرُ صحته هو ونشاطه عندما كان شاباً.

وإذا كان المضمر داخل الجسد من أعضائه أدق في بيان حالَيْ الصحة والمرض ومرحلتـَيْ الشباب والشيخوخة، فإن المشية هي أكثر الإمارات الظاهرة وأدقها إفصاحاً عمّا يختبئ داخل الجسد من المعاني على اختلافها وتضادّها.

وربما جاز لكثير من “العجايز” بقليل من المجهود والدُّرْبة أن يعدِّلوا من مشيتهم لتُوافق ما درجوا عليه أيام الشباب، أو ما تيسّر من الشبه بمشية الشباب على أضعف الفروض. غير أن للكِبَر كِبْرياءً على ما يبدو، فبرغم الإغراء الكامن في صنيع من ذلك القبيل يفضِّل العجوز عادة أن تعكس مشيته إنْ لم نقل ما يستتر في جسده من وهن الأعضاء فما يفيض به قلبه أسفاً من كرّ الأيام وإنْ سعى إلى التحلِّي بصبر جميل.

بذلك يغدو كبرياء العجوز – متمثلاً في التشبُّث بمشية فاترة – فريداً في لونه، فكأنه ضربٌ من الإصرار على معاتبة الزمان يتجاوز رغبة العجوز الكامنة في إنكار الكِبَر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى