الخرطوم تسامح نيوز
صدمت كغيري بأخبار وصور الفظائع الشنيعة التي وقعت على (الجنينة) خلال استباحة قوات الدعم السريع لديار المساليت . وجسدت صور مقتل الوالي والتمثيل بجثته مثال المأساة والصدمة . و رغم ان أحداثا كهذه تهدد فاعلها بإقصاء نهائي من المشهدين السياسي والاجتماعي ، لكني مع ذلك لم ارجح إزاحة قوات الدعم السريع من المشهد ، ذلك لأن وجود (العسكري) أصبح لازمة في السياسة السودانية بعد ان صارت لجل القوى المدنية السياسية قناعة بضرورة وجود رافعة عسكرية لا يستغني عنها السياسي – مهما فعل العسكري و تجاوز .. وهكذا بقي الجنجويد رغم صدمة أحداث الجنينة .
الاستعانة بالقوة العسكرية للوصول للسلطة أمر مألوف في السياسة السودانية ، وبما أن السياسة هي مهمة السياسي المدني، يظن السياسي أن دور العسكري في هذا التحالف دور مؤقت ينتهي عاجلا بان يؤول أمر ادارة العملية السياسية للسياسي و يعود العسكري للثكنة حارسا للحدود و حاميا للدستور ! لكن الواقع يقول بغير ذلك ، فقد أكدت (كل) الوقائع فشل رهان السياسي ..
علاقة السياسي بالعسكري بدأت باكرة – بعد أقل من ثلاث سنوات على الاستقلال ، حين طلب رئيس الوزراء عبد الله خليل من قائد الجيش ابراهيم عبود أن يستولي على السلطة لقطع الطريق على ازهري؛ ظنا من خليل انه (يضبط) مسار العملية السياسية . و توهم أن بامكانه ان يطلب من عبود العودة للثكنات بعد ان يفرغ من مهمة ضبط المسار . و ما فطن خليل الى ان تعليماته في المرة الثانية سوف تكون ل (رئيس) تذوق السلطة – قابل جون كينيدي و استقبل عبد الناصر وشارك في تأسيس منظمة الوحدة الاقريقية و اعترف بالصين الشعبية؛ فلم يكن غريبا ان يتجاوز العسكري ابراهيم عبود السياسي عبد الله خليل ، بل و ارسله الى (ناقيشوط) معتقلا مع غيره من السياسيين ؛ فقد قوى الرئيس العسكري وخلفه مؤسسة لا يستهان بها – و ان لم تكن السياسة مهمتها الأصيلة .
قد يكون الحزب الشيوعي قد ظن أن تحالفه مع المؤسسة العسكرية سوف يختلف عن تحالف خليل- عبود ؛ الذي ساندته بيانات طائفية بلا معينات ضرورية اخرى يملكها الحزب صاحب الامكانات التنظيمية والقدرات على الحراك الجماهيري . ولا بد أن يكون الحزب قد راهن على (كاريزما) وصيت قيادة الحزب ؛ فلن يكون ل (النميري) وجود يذكر في حضور (عبد الخالق) الطاغي ؛ و لن يتقدم الجيش على الحزب خاصة و ان للحزب عضوية في المؤسسة العسكرية .. لكن … الرهان فشل فشلا خطيرا دفع على اثره الحزب ثمنا باهظا لا احتاج ان اعيد تفاصيله .
فما بال الجبهة الاسلامية تعيد ذات التجربة وتحاكي نفس التحالف غير متعظة بما حاق بالحزب الشيوعي ؟
يبدو ان الجبهة الاسلامية قد توهمت ان العسكري الاسلامي يختلف جوهريا عن عضوية العسكريين الحزبيين الآخرين – يوجهه التزامه الديني إلى طاعة (ولي الامر) ولو كان شيخا خارج المؤسسة العسكرية ؛ وان مؤثرات و توجيهات التنظيم الاسلامي أقوى من علاقات رفاق السلاح مع بعضهم .
لكن ؛ عندما حانت لحظات المفاضلة الحاسمة بين المؤسسة العسكرية والتنظيم، انحاز عبد الرحيم محمد حسين وبكري حسن صالح لرفيق السلاح عمر البشير ، ومعهم ضباط لا ينتمون للتنظيم ليتساووا جميعا في تجاوز الشيخ حسن الترابي ؛ ولما اصر الشيخ فيما بعد على المواجهة لم يترددوا في ارساله الى السجن ليصعد نجم العسكري عمر البشير و ينزوي تدريجيا المفكر السياسي صاحب ندوة اكتوبر الاستاذ الجامعي حسن الترابي ، ويتراجع دور الحركة الاسلامية و تتقدم كثيرا المؤسسة العسكرية حتى احتل قائد الجيش موقع رئيس الحزب الحاكم .
التجربة التالية هي تجربة التجمع الوطني الديمقراطي الذي ضم قوى مدنية سياسية مع (الجيش) الشعبي لتحرير السودان – الجناح العسكري للحركة الشعبية .. هذه تجربة تحتاج لتقييم ادق ؛ فاذا كنا قد لاحظنا في التجارب المستعرضة أن العسكري يكسب الرهان على الدوام ؛ رغم ندية الدور المدني ورغم محدودية الدور العسكري في عملية انقلابية لا تستغرق سوى ساعات ، ندرك مخاطرة المدنيين في طلب العون العسكري من الحركة الشعبية لاسترداد الديمقراطية من نظام تحرسه المؤسسة العسكرية والتدابير الامنية و الاجراءات القمعية . فهذه مهمة شاقة لن تؤديها الحركة الشعبية الا بمقابل كبير ، اذ لن تقبل الحركة ان يبذل مقاتلوها دماءهم من اجل ان يستعيد ساسة في الشمال الحكم في الخرطوم .
الحقيقة الثانية في التحالف العسكري السياسي في تجربة التجمع الوطني الديمقراطي هي ان الحركة الشعبية و جيشها الشعبي هما امتداد للحركة السياسية الجنوبية المعنية بالأوضاع الخاصة بجنوب السودان – و ان ادعت انها حركة معنية بتحرير كل السودان . و ما ان لاحت للحركة فرصة حل الاشكال الجنوبي دون سائر القطر حتى سارعت الى قطف الثمرة الدانية لتترك التجمع يواجه (قضيته) التي تهمه في الشمال بدون ان تحس الحركة انها قد خسرت شيئا .
تجربة التجمع الوطني خير مثال لخطر (استعارة) قوة غير اصيلة ؛ ومع الاقرار بانها استعارة اضطرارية لا بد من الاعتراف بان استقواء السياسي بالعسكري، لا يجبر السياسي على تقديم تنازلات فحسب ؛ بل يضعه تحت التهديد الدائم بالاقصاء ، كما حدث في تجارب مايو والانقاذ – وكما حدث من الحركة الشعبية حينما تخلت عن حلفائها في التجمع ووقعت اتفاق السلام مع نظام الانقاذ الاسلامي .
اخر تجارب التحالفات العسكرية السياسية هي التحالف بين بعض القوى المدنية في (الحرية والتغيير) وقوات الدعم السريع ، وهو التجربة الاسوأ ، لعدم اعتبارها بمالات التجارب السابقة التي كان فيها المدنيون ضحية المؤسسة العسكرية ، وللتجاهل التام لتاريخ الدعم السريع في التفلت بل وفي الاستباحة . ومثلما تعامى قادة التجمع الوطني عن رؤية حقيقة العلاقة مع حركة اقليمية معنية بمظالم شعب بعينه، تعامى قادة الحرية والتغيير عن رؤية حقيقة تركيز الدعم السريع على اهداف قبلية محدودة ومطامع أسرية وشخصية . ومثلما خابت آمال التجمع الوطني الديمقراطي في ان يستعيد (له) دكتور جون قرنق الديمقراطية في الخرطوم تخيب آمال الحرية والتغيير في (حميدتي) الذي لا تؤهله معارفه ولا مؤهلاته لحمل تصور عن كيفية تأسيس النظام الديمقراطي . و اتصفت تجربة التحالف الاخير ب (طور) اخطر ، فالحليف العسكري هذه المرة لا تلجمه ضوابط وأعراف المؤسسات العسكرية الحديثة ، فانتكس عاجلا لطبعه الاصيل – يطرد و يرهب ويسحل ويقتل ويصدم بالصدمات التي افتتحنا بها المقال .
تجارب مريرة علها تجعل القوى السياسية مدركة لخطر الاستقواء بالعسكري – مهما كانت الذرائع . ولا تكتمل العبرة الا بأن تعد القوى المدنية العدة لاستحقاقات الحكم الصعبة ، بأن تمارس الأحزاب عملية اصلاح كاملة تشمل بالضرورة استشعار أهمية الطرح الفكري والبرامج السياسية ، وتشمل ممارسة الديمقراطية الداخلية وتأهيل العضوية، حتى تتجاوز حالة الاداء البائس للمؤسسة الحزبية الذي انعكس سلبا على اداء الحكم المدني خاصة في الديمقراطية الثالثة وفي فترة الانتقال بعد ثورة ديسمبر ، وهو ما يمنح الانقلابيين واشياعهم فرصة الادعاء بضرورة التدخل العسكري ل (حسم) المدنيين و وضع حد لحالة (التلكؤ) والبطء – حسب دعاوى الانقلابيين .
فهل من ملامح تبشر بالعظة من تجارب الفشل الماضية التي أفضت الى درك الفوضى و الاستباحة ؟