أجد نفسي حزيناً لممانعتي غير الموضوعية لمطالعة وقراءة كتب الراحل الدكتور منصور خالد ..لست وحدي .. نحن جيل كامل من شباب الإسلاميين سرنا علي درب التنميط والتجييش الأعمي ضد رموز ثقافية وسياسية وحُرمنا من إنتاجهم الفكري والأدبي والسبب المعلن لنا أنهم شيوعيون وملاحدة لاتقتربوا من كتبهم وأفكارهم ومجالستهم فهم وما ينتجون من رحيق الفكر والأدب رجسٌ من عمل الشيطان يجب اجتنابه !!
قبل خمس سنوات أهداني أستاذي وأخي الأكبر السفير كمال حسن علي المجموعة الكاملة لمذكرات المرحوم منصور خالد ..بعثها لي أخي كمال في مقر إقامتي بأحد الفنادق وسط القاهرة والتي زرتها بمعية البروفيسور إبراهيم أحمد عمر ..زيارة ستبقي خالدة في الذاكرة والوجدان لأنها وبأسرارها كانت الزيارة الأخيرة لي مع مسؤول سوداني رفيع قبل سقوط الإنقاذ !!
بمناسبة هذا المقال أجدد عميق شكري للأخ الدكتور كمال حسن علي ذلك أنه منحني فرصة (تاريخية) للتعرّف علي الدكتور منصور خالد ..ولكن ما يحزنني أنها معرفة بعد وفاته ..
فوجئت حقاً أنني أمام مثقف موسوعي وكاتب تحقق كتبه مقولة الكاتب جورج أوريل : (الكاتب والمثقف الحقيقي هو من تدعم كتبه فهمك لكثير من الأمور ويجيب علي الأسئلة التي تنتظر الإجابة عليها !) .
أكثر ما أثار دهشتي في كتب مذكرات منصور خالد استشهاده العميق بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية واقتباس من أمهات كتب الفقه والفكر الإسلامي بطريقة لم أجدها حتي عند فطاحلة الكتاب والأدباء والمفكرين داخل حوش الحركة الإسلامية التي تخرجنا في مدرستها !!
ولأن الحديث يطول حول منصور خالد ، آمل صادقاً أن يعكف أصدقائي وزملائي الصحفيين علي قراءة مذكرات منصور خالد خاصة وكتبه عامة ..سيجدون فيها متعة القراءة وجزالة وعمق لغة الكتابة وتفردها .. والأهم من كل هذا أن منصور خالد في كتبه يشرح بتفصيل ممتع أدقّ أسرار وخفايا المشهد السياسي السوداني كما عايشه الرجل ..وسيضحك الكثيرون عندما يكتشفون كيف يسخر الراحل منصور خالد من أنصاف السياسيين الذين يتسيدون بل ويقودون حياتنا السياسية في زماننا هذا !!
في مذكرات منصور خالد تجد بعض الإفادات التي لا تخلو من غرابة وطرافة ..تذكرت جزءاً منها صباح اليوم أثناء نقاشي مع بعض الأصدقاء في قروب واتساب حيث أوردت الصحفية رشان أوشي خبراً عن حاجة السريرة مصممة علم السودان وهذا خطأ تاريخي ظللنا نحن معشر الصحفيين نتداوله عاماً بعد عام وهذا ماينكره منصور خالد في مذكراته بقوله:( في أكثر من كتاب ومقال وصفنا ظاهرة حياكة الدساتير ب(شُغل الترزية في يوم الوقفة ) وهو تفصيل شمل حتي الرموز فعند الحديث عن العلم كان من بعض رأي رجالات الأنصار أن يحمل علم السودان رمزاً يعبر عن الثورة المهدية لتأكيد الصلة بين دولة السودان المستقلة الأولي ودولته الثانية . ذلك الاقتراح الأنصاري لم يلق ترحيباً من الختمية ومن والاهم ، إذ إن الطائفتين قد دقتا بينهما عطر منشم . لهذا اتفق الطرفان علي راية تعبر عن الجغرافيا لا التاريخ : الماء، والصحراء، والزرع . ذلك هو أصل العلم الذي ظللنا نباهي في كل عيد من أعياد الاستقلال برفعه علي ساريته . وقد ظلت صحافة السودان ووسائل إعلامه تنسب صنع العلم إلي سيدة فاضلة قد تكون هي التي اختاطت العلم ، لا من حدد ألوانه ومواقعه علي القماشة ودرجات التلوين فيها . فالاستهانة براية الوطن بهذه الصورة لايشرف واضعيها ورافعيها ، كما يبين جهلاً مروعاً من جانب ناشري تلك الأقصوصة في أجهزة الإعلام بمكان العلم الوطني في تاريخ الشعوب . ذلك العلم استبدلته حكومة مايو بعلم آخر صنعه هو الآخر محل أكاذيب ..فمن بين المؤرخين الهواة من نسبه إلي قرار من الجامعة العربية بتوحيد الأعلام العربية ..ولو رجعت إلي مضابط الجامعة قد لاتجد قراراً واحداً كهذا . ولكن للحقيقة نقول أن أول تبديل لعلم الاستقلال وقع في بداية عهد مايو وفي مطلع المد الوحدوي . ذلك التغيير ، خاصةً في ألوان العلم استلهم أعلاماً ثلاثة : المصري والسوري والعراقي . وكان أكثر قادة النظام المايوي رغبةً في تبديل العلم الجغرافي الذي اتفق عليه آباء الاستقلال هو السيد بابكر عوض الله حتي يتوافق العلم الجديد مع أعلام الدول القائدة للوحدة العربية ..وفي زيارته لنيويورك للمشاركة في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة أشرك بابكر عوض الله السفير فخرالدين في الأمر بحسبانه فناناً تشكيلياً فأقترح السفير الفنان إضافة المثلث الذي يتوسط العلم كرمز للنيلين الأبيض والأزرق ووافقه علي ذلك بابكر عوض الله ) ..
أخذت هذا الجزء الهام من مذكرات منصور خالد ..الجزء الأول ص187و188.
رحم الله منصور خالد .. وحفظ الله بلادنا من شرور ترزية الدساتير وبنشرجية الاتفاقات الإطارية !!